تابعنا
تتمثل مصالح الاحتلال في زيادة الضغط على المقاومة الفلسطينية من خلال حاضنتها الشعبيّة، والاستفراد بالمقاومة أكثر في حال خروج المدنيين من الميدان، وتخفيف الضغوط الدوليّة بسبب المجازر المرتكبة في حق المدنيين.

بعد الصدمة التي تلقّتها المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كانت التقديرات الأولية لدى هذه الأخيرة والحكومة على حد سواء أن كل الاستراتيجيات المستعملة سابقاً مع قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية -وخصوصاً حركة حماس- لم تنفع.

لسنوات طويلة، تعاملت حكومات الاحتلال مع غزة وفق استراتيجيات عدّة، من أهمها في المجال العسكري ما اصطُلح على تسميته "جزّ العشب"، أي شنّ هجوم على القطاع كلّ عدة سنوات، بغرض حصد وتقويض ما أنشأته المقاومة الفلسطينية من بنية تحتية وراكَمته من قوة، ومنعها من التوسع والتطوير حتى لا تتخطى حداً معيناً.

هذه الاستراتيجيات كانت تدعم كذلك فكرة الردع التي تؤمن بها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بحيث تكون الخسائر البشرية والاقتصادية وأضرار البنى التحتية رادعاً للفلسطينيين عن المقاومة.

في المقابل، راهنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على أن إدارة حركة حماس لقطاع غزة سوف تجعلها أقلّ رغبة في المواجهة، وأكثر حرصاً على الهدوء وتلبية احتياجات السكان، وعلى أن إدخال المال إلى غزة عبر قطر وبموافقة الاحتلال يشجّع على هذا المسار ويصعّب فكرة الدخول في مواجهات مسلحة.

وقد كانت جولات القتال بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي مؤخراً، التي قدّمت خلالها حماس دعماً محدوداً -أقلّه في العلن- للأخيرة، مؤشراً بالنسبة إلى الاحتلال على نجاح كلّ ما سبق، لكن ثبت سوء تقديره كلياً في معركة طوفان الأقصى.

دفع ذلك حكومة نتنياهو إلى البحث عن بدائل للتعامل مع قطاع غزة وفصائل المقاومة فيه، ولم يكن لديها في ما يبدو خطة واضحة للتعامل مع الوضع المستجد والصدمة الحاصلة، لكن الأفكار المطروحة دارت في فلك ضرورة اتخاذ إجراءات جذرية وحاسمة تجاه القطاع وحماس.

وكان أحد أبرز المقترحات مع بدايات العدوان أن يضاف إلى اجتثاث حركة حماس ضرورة إفراغ القطاع من سكانه بترحيلهم قسريّاً نحو سيناء في مصر، وهو ما ورد في تقرير لوزارة الاستخبارات ذات الطبيعة الاستشارية.

تكرّر ذلك في تصريحات الحكومة وعلى لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين، في مقدمتهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي التقى رؤساءَ دول عربية عدة للترويج لهذه الفكرة، وسُرّب وقتها أنه واجه معارضة شديدة للفكرة، لا سيّما من مصر التي عدَّت الأمر تهديداً لأمنها القومي.

لاحقاً، اختفت الفكرة من التداول الإعلامي إلى حدّ كبير، تحت وطأة صمود المقاومة وثبات الغزيين في قطاعهم ورفض الدول المجاورة -وخصوصاً مصر- للخطة، فتردّد لدى كثيرين أن المشروع قد فشل ورُفع من التداول ولم يعُد قائماً، وأن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل تبحثان عن خيارات أخرى. فهل هذا فعلاً ما حصل؟

خفوت مرحليّ

تقديرنا أن التداول الإعلامي تراجع مؤقتاً فقط وتحت ضغط الرأي العام المتزايد ضد الدعم الأمريكي غير المسبوق للاحتلال وحربه على غزة، إلا أنه لم يُلغَ تماماً من جدول الأعمال، إذ هو يحقق مصلحة بالنسبة إلى الاحتلال، وهو أمر يؤكّده الواقع والتطورات الميدانية كذلك.

تتمثل مصالح الاحتلال في زيادة الضغط على المقاومة الفلسطينية من خلال حاضنتها الشعبيّة، والاستفراد بالمقاومة أكثر في حال خروج المدنيين من الميدان، وتخفيف الضغوط الدوليّة بسبب المجازر المرتكبة في حق المدنيين، وإعداد الأرضية لإعادة تشكيل قطاع غزة في ما يتعلق بالمشاريع المستقبلية طويلة الأمد بعد المعركة.

وفي ما يتعلّق بالميدان، فقد ادّعت حكومة الحرب الإسرائيلية التي شُكّلت بعد أيام من بدء العدوان على غزّة أنها تستهدف شمال القطاع فقط ودعت السكّان إلى مغادرته نحو الجنوب الذي ادّعت أنه "منطقة آمنة".

وعلى هذا الأساس سارت خطتها العسكرية على الأرض، فركّزت مع شمال القطاع أكثر وعملت على فصله عن الجنوب، وضغطت بكل قوة لإخراج السكان نحو الجنوب، ضاربة عرض الحائط بكلّ المناشدات الدولية وقبلها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحتى أعراف الحروب.

بيد أن الواقع يكذّب هذه الادعاءات بشكل واضح، فالجنوب كذلك مستهدف بشكل كبير، إذ قُصفت كل مناطق قطاع غزة وإن بدرجات متفاوتة، وسقط شهداء وجرحى فيها جميعاً، بل إنّ كثيراً من سكان الشمال قضوا بعد انتقالهم إلى أقربائهم في الجنوب، وبعضهم استُهدف خلال رحلته نحوه.

وعليه، يمكن القول إنّ الخطة العسكرية للاحتلال تقضي بالتركيز حالياً على شمال القطاع، لأسباب عسكرية وحتى تضمن انتقال أكبر عدد ممكن من السكان نحو جنوبه، ومما يدعم هذا التوجه الحصار المحكم على الشمال ومنع دخول أي مساعدات نحوه، والتركيز على أنّ أيّ مواد إغاثية تدخل إلى القطاع ستبقى محصورة في الجنوب فقط.

كما يمكن ملاحظة أن الجيش الإسرائيلي استهدف ويستهدف كل مقومات الحياة، من مدنيين وبنى تحتية ومدارس ومراكز إيواء، حتى المساجد والكنائس والمستشفيات، كرسالة واضحة بأنه لا مكان آمن أو ذو حصانة ضد الاعتداءات وأن الحل الوحيد يكمن في الرحيل بعد تحويل المنطقة إلى مكان غير صالح وغير قابل للحياة.

مرحلة ثانية في الجنوب

نتوقع أن تكون هناك مرحلة ثانية بعد أن تصل العمليات العسكرية إلى مرحلة معينة في الشمال، سوف تركز فيها الآلة العسكرية الإسرائيلية على الجنوب أكثر وتعمد خلالها على ارتكاب أكبر عدد ممكن من المجازر لإجبار الناس على البحث عن مخرج، ولن يكون حينها أمامهم سوى معبر رفح.

أخيراً، ثمة مَن يراهن على استمرار رفض مصر ودول أخرى لخيار التهجير باعتباره أحد أهم ضمانات عدم حصوله، فيما يمكن أن يحصل رغماً عن هذه المواقف حتى ولو استمرت، تحت ضغط القصف غير المسبوق وجرائم الحرب المتكررة والحصار الخانق.

أكثر من ذلك، ليس من الحكمة الرهان على ثبات موقف النظام المصري من الأمر على المدى البعيد، لا سيما أن الأوضاع الاقتصادية في مصر تجعله عرضة لضغوط أمريكية في هذا الاتجاه مع "جزرة" سَدّ الديون و/أو تسهيل الاقتراض وغيرهما من المحفزات المالية والاقتصادية.

حتى النظرة إلى الأمر على أنها تهديد للأمن القومي المصري لا تبدو ضمانة كافية، في ظل تجارب سابقة مثل سَدّ النهضة وجزيرتَي تيران وصنافير، وكذلك في ظل السيطرة الكاملة للسيسي على مؤسسات الدولة وغياب أيّ رأي عام ضاغط ومجتمع مدني ناشط.

وعليه، ختاماً، تَراجَع الحديث عن مشروع تهجير سكان غزة في العلن وفي الإعلام مؤقتاً فقط لتخفيف الضغوط عن مختلف الأطراف داخلياً وخارجياً، إلا أن الوقائع على الأرض تقول إنه ما زال مطروحاً على الطاولة باعتباره خياراً أساسياً، وربما ما زال يُبحَث وراء الأبواب المغلقة.

وبالتالي فهو سيناريو ما زال قابلاً للتطبيق بالنسبة إلى تل أبيب وواشنطن وربما عواصم أخرى، بانتظار الوقت المناسب والظروف الأمثل لتحقيقه فعلياً وإن لم يُعلَن عنه بالضرورة رسمياً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي