تابعنا
كشفت بعض المصادر عن توجه الصين نحو إنشاء صندوق استثماري جديد مدعوماً من الدولة يهدف إلى جمع نحو 40 مليار دولار لاستثمارها في قطاع أشباه الموصلات، ومن المرجح أن يكون أكبر الصناديق الاستثمارية التي أطلقتها الصين مؤخراً تحت اسم "الصندوق الكبير"

أشارت العديد من التقارير الصحافية أن عملاق الصناعات التكنولوجية في الصين هواوي وبشكل مفاجئ وغير متوقع للكثيرين قد كشفت عن أحدث جهاز محمول لديها من طراز Mate 60 Pro بسعر يقرب من ألف دولار أمريكي، منبع المفاجأة كان قدرة الشركة على تجاوز العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها منذ سنوات لتأخير تقدمها ومنع حصولها على التكنولوجيا المتقدمة، وذلك لمواكبة التطور التكنولوجي لمثيلاتها في الغرب مثل شركة أبل وغيرها.

فمع اشتداد وطأة التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين على أثر الاختراقات الكبيرة التي حققتها الأخيرة في هذا المضمار، لجأت واشنطن إلى فرض العديد من العقوبات الاقتصادية والتجارية على الشركات الأمريكية والأوروبية في حال تعاملت مع نظيراتها من الشركات الصينية. وقد جاءت هذه العقوبات تحت مبررات عديدة، أبرزها أن التكنولوجيا الصينية التي تغزو الأسواق الغربية أصبحت تشكل تهديداً للأمن القومي، فهناك اعتقاد واسع لدى دوائر الأمن في العواصم الغربية بأن الصين تستخدم تكنولوجياتها من قبيل شبكات G5، ومنصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك و WeChat للتجسّس على الحكومات والرعايا الغربيين.

وبموجب هذه العقوبات، واجهت هواوي قيوداً على شراء المكونات التكنولوجية الدقيقة من الشركات الأمريكية من دون موافقة الحكومة، وقد عدّت هذه الإجراءات العقابية ضربة كبيرة لشركة هواوي، نظراً لأن الشركات الأمريكية مثل كوالكوم وإنتل تُعدّان من الموردين الرئيسيين لهواتفها الذكية ومعدات شبكاتها للاتصال من الجيل الخامس، على حين لجأت شركات أخرى مثل غوغل، وخوفاً من تعرضها للعقوبات الأمريكية، إلى حظر هواتف هواوي الأحدث من إمكانية الوصول إلى نظام التشغيل الخاص بها أندرويد وتطبيقاتها المختلفة مثل Gmail، وخرائط غوغل، وGoogle Play.

بطبيعة الحال كان لهذه القيود التجارية والعقوبات الاقتصادية وقع كبير على الشركة التي كانت ذات يوم تسير على قدم المساواة مع أكبر مصانع العالم للأجهزة المحمولة والإلكترونيات مثل سامسونغ. فقد بلغت قيمة مبيعاتها لعام 2020 ما يقرب من 483 ملياراً، لتنخفض إلى النصف فقط في العام التالي بفعل العقوبات.

مع إصدارها الجديد، يبدو أن شركة هواوي ترسل برسالة واضحة إلى خصومها الغربيين أنها استطاعت التغلب على هذه العقوبات والقيود إلى حدّ كبير، فقد كشف الخبراء أن الشركة قد استخدمت معالجات بحجم 7 ناتوميتر طورتها عملاق صناعة أشباه الموصلات الصينية شركة SMIC، الأمر الذي يضعها فقط على بعد نانوميترين اثنين فقط عن المعالجات التي سوف تستخدمها أبل في إصدارها اللاحق الأحدث من إيفون التي تبلغ 5 نانوميتر.

وكانت الحرب حول أشباه الموصلات قد اشتعلت منذ أن أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي عن مشروع قرار جديد يدعى Chip Act بموجبه تفرض واشنطن عقوبات اقتصادية على أي شركة تزوّد الصين بأي تكنولوجيا تدخل في صناعة الرقائق الدقيقة، هذا فضلاً عن دعم أمريكي فيدرالي سخي للشركات الأمريكية من أجل إعادة تنشيط هذا القطاع داخل الأراضي الأمريكية، بعد أن كان الاعتماد على تايوان (وشركتها العملاقة TSM) التي تعتبر أكبر مزود لهذه الرقائق في العالم هو سيد الموقف، ولذلك ليس من المستغرب أن تكون تايوان في قلب التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، وهو التنافس الذي بات يأخذ منحى خطراً إثر التهديدات المتبادلة بين الطرفين.

جاء إعلان هواوي ليطرح العديد من الأسئلة حول نجاعة الإجراءات الأمريكية في محاولة إبطاء النمو الصيني، وخصوصاً في قطاع التكنولوجيات الدقيقة مثل أشباه الموصلات، والحوسبة الكمومية وتكنولوجيا الفضاء والذكاء الاصطناعي. فقد أشار العديد من التقارير إلى أن الصين تتقدم على الغرب في الكثير من هذه القطاعات رغم العقوبات المفروضة على شركاتها.

يسلط هذا المنحنى الضوء على الإجراءات المضادة التي اتخذتها (وتتخذها) الصين للتصدي للعقوبات الأمريكية والتحايل عليها، والمحافظة بالتالي على زخم تطورها التكنولوجي. ولعل أبرز هذه الإجراءات المضادة يكمن في عملية الاستثمار الداخلي الواسعة، فاستراتيجية "صنع في الصين 2025" التي أطلقتها الصين في عام 2015 تهدف بشكل واضح إلى ترقية قدراتها التصنيعية المحلية، وتتضمن خططاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج أشباه الموصلات على وجه التحديد.

وفي الآونة الأخيرة كشفت بعض المصادر عن توجه الصين نحو إنشاء صندوق استثماري جديد مدعوماً من الدولة يهدف إلى جمع نحو 40 مليار دولار لاستثمارها في قطاع أشباه الموصلات، ومن المرجح أن يكون أكبر الصناديق الاستثمارية التي أطلقتها الصين مؤخراً تحت اسم "الصندوق الكبير" وهي صناديق استثمارية معنية بدفع عجلة التقدم في القطاعات التكنولوجية إلى الأمام وتجاوز جميع المعوقات التي يفرضها الاعتماد على الشراكات الخارجية.

من الإجراءات المضادة أيضاً الاستثمار بالقدرات البشرية، إذ تؤمن الصين أن عملية الاكتفاء الذاتي لا يمكن أن تتم من غير تطوير المؤهلات البشرية القادرة على خلق حالة توازن مع المؤهلات الغربية وربما التفوق عليها. على سبيل المثال، هناك اهتمام واسع بالجانب العلمي والأكاديمي في عملية تطوير هذه المؤهلات. مؤخراً أقدم أكثر من خمسين جامعة في أنحاء الصين على اعتماد مناهج خاصة لتعليم تكنولوجيا أشباه الموصلات، وتهدف إلى تخريج أكثر من 20 ألفاً سنوياً بحلول عام 2025. كما أقدمت وزارة التعليم عام 2021 على تخصيص ما يقرب من ملياري دولار أمريكي على شكل منح بحثية في تكنولوجيا أشباه الموصلات، وهي زيادة مقدارها أربعة أضعاف عما كانت عليه عام 2017.

لا يمكن لأحد التنبؤ بمآلات هذا التنافس التكنولوجي بين الدول العظمى، الشيء الواضح الوحيد حالياً هو أن العولمة القائمة على التبادل التجاري الحر بشكلها التقليدي قد أصبحت من الماضي، وأن العالم يعبر إلى مرحلة جديدة كلياً، ربما يكون عنوانها الحمائية لا الاعتمادية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي