عايش الدكتور غسان أبو ستة جيمع حروب إسرائيل على قطاع غزة وعمل في الحرب الأخيرة في مستشفيات شمال ومدينة غزة / صورة: TRT عربي (TRT عربي)
تابعنا

أسلحة الحروب هي مفتاح فهمها، وتحديداً انعكاسها على الحجر والبشر، فمن طبيعة الجرح وشكل الإصابة على الجسد الإنساني، يمكن مقاربة شكل الحرب وأهدافها، وأكثر من يتعامل مع آثار الحروب هم الأطباء.

عايش الدكتور غسان أبو ستة حروب إسرائيل على قطاع غزة بدءاً من حرب "الفرقان" 2009/2008، وحرب "حجارة السجيل" 2012، وحرب "العصف المأكول" 2014، ومسيرات العودة 2018، وحرب "سيف القدس" 2021، وأخيراً "طوفان الأقصى" 2023.

وبعد ساعات من بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وإغراق المستشفيات بالمصابين والجرحى والشهداء، أدرك الدكتور غسان أن غزة أمام حرب مختلفة، تتجاوز الأشكال السابقة من حيث مدى الدمار وطبيعة الإصابات فالهدف "إزالة غزة عن الوجود"، كما يقول الدكتور غسان.

ولم تقتصر معاناة القطاع الصحي على قلة الموارد والإمكانيات التي سببتها سنوات الحصار الطويلة، بعد أن أعد نفسه لـ"فيضان وواجه تسونامي من الإصابات" كما يقول الدكتور غسان، إنما أصبح هو نفسه هدفاً للجيش الإسرائيلي، الذي شن حرباً على المستشفيات ولاحق الأطباء بالاغتيال والاعتقال.

قاوم الأطباء الهجمة الإسرائيلية واتخذوا "قراراً وطنياً" بعدم إغلاق أي مستشفى أو إخلائه، وسط تفان منطقع النظير للحفاظ على ما تبقى من مظاهر الحياة في مدينة غزة وشمالها.

في هذه المقابلة مع الدكتور غسان أبو ستة -الذي عمل خلال وجوده في غزة في مستشفيات العودة، والمعمداني والشفاء- نسعى لمقاربة الحرب وفهمها من منظور طبيب عايش فصولها الأهم، وتحديداً في شمال ومدينة غزة، التي تعرضت غالبية مستشفياتها للتدمير، فيما تعرض الجزء الأكبر من سكانها للتهجير القسري بعد موجات هائلة من القصف والمجازر.

تدمير القطاع الصحي كهدف عسكري

منذ عام 2007 وقطاع غزة يتعرض لحصار شديد ترك أثره على جميع القطاعات الحيوية، كيف انعكس الحصار على القطاع الصحي؟ ما المختلف في هذه الحرب عن بقية الحروب؟

الحصار هو أحد أدوات الحرب، ما قامت به إسرائيل هو "تسليح القطاع الصحي" كأداة في وجه الفلسطينيين عن طريق إعاقة تطوره واستخدامه لإبقاء الفلسطيني ما بين الموت والحياة. أي بمنطق "نيكروبولتيكس" لتكون حياة الفلسطيني أكثر من الموت لكنها ليست بالحياة الكاملة، وهذا نوع من "الدوزنة" (الضبط) للحياة والموت يهدف لإبقاء الفلسطيني في المنطقة الضبابية.

أما عن الفرق ما بين هذه الحرب والحروب الأخرى، كالفرق ما بين "الفيضان والتسونامي"، القطاع الصحي أعد نفسه لفيضان، لكنه واجه تسونامي، لذلك ظهر الإعداد صغيراً أمام ما هو قائم.

على سبيل المثال، كل القدرة الاستيعابية للقطاع الصحي في غزة 2500 سرير، تشمل كل التخصصات من الطب النفسي والعيون والولادة والأمراض الباطنية، فيما وصل عدد الجرحى إلى 50 ألف جريح.

عندما تبدأ بإزالة أحياء كاملة بطريقة منهجية، وعند النظر إلى طبيعة الإصابات التي كانت تصل، تدرك الهدف الحقيقي من الحرب، والمتمثل في إزالة غزة عن الوجود، في حرب 2012، جرى استهداف بعض العائلات كالسموني في حي الزيتون، وفي 2014، زاد عدد العائلات المستهدفة، كالفرا والنجار وزيادة، ولكن بهذه الحرب أصبح لدينا استهداف أحياء كاملة بالضربة نفسها، هذا الأمر لاحظناه عند استهداف حي الرمال، وتل الزعتر، وأحياء من جاليا أو بيت لاهيا.

الجزء الثاني المختلف في هذه الحرب هو "القتل والتقتيل" بحيث تكون الأعداد المستهدفة هائلة، عبر استخدام أنواع من الأسلحة تساعد في تأدية هذه المهمة، كصواريخ " هيل فاير" المتشظية، وذلك لقتل أكبر قدر ممكن من الناس، ظهر ذلك في استخدام الفسفور الأبيض ضد مخيم الشاطئ بعد أن بدأت الدبابات الإسرائيلية بتلقي الضربات، كل هذه الأسلحة تظهر هدف الحرب.

فمن جرح كل سلاح بعد خبرة 30 سنة، يمكن تمييز مكونات السلاح، هل هو متشظي؟ حارق؟ كيماوي؟ قذائف عالية؟ محدودة؟ يمكن وقتها معرفة وإدراك مكونات السلاح نفسه.

العدد الكبير من الضحايا والإصابات أدى إلى إغراق القطاع الصحي، بعد أن اضطر إلى التعامل مع أكثر من 50 ألف إصابة، وفي ضوء أهداف الاحتلال لإحداث نوع من "الانهيار المدني" في شمال ومدينة غزة، كيف استجابت الطواقم الطبية لهذا التحدي؟ وكيف عملت على استدامة القطاع الطبي وقدرته على الصمود؟

هذه أول حرب في التاريخ يكون الهدف الأساسي منها ضرب القطاع الصحي، لخلق كارثة متكاملة عبر تدمير شبكات الصرف الصحي، والمياه، ومصادر الأكل، والقطاع الصحي وغيرها، هذه الكارثة لا تحتاج إلى تغذيتها، اتركها فقط لبعد الهدنة، والحصار يغذيها لتظل مستمرة في حصد أرواح الناس.

وحول استجابة القطاع الصحي وصموده، اعتمد ذلك على أمرين: الأول: قرار وطني على مستوى الأفراد والمؤسسات ووزارة الصحة بعدم إخلاء أي مستشفى، وعندما هددت مستشفى العودة لأول مرة رفضت الإخلاء، وحين ضربت بصاروخ وأدى إلى استشهاد 3 أطباء رفضت الإخلاء كذلك، ولما حاصرها القناصة الإسرائيليون وأطلقوا النار على الأطباء في الداخل وجرحوا أحد الجراحين رفضت الإخلاء كذلك.

الأمر نفسه مع مستشفى المعمداني، رفض الإخلاء على الرغم من المجزرة التي جرت فيه، فبعد يومين جرى إصلاح غرفتَي عمليات، وطابق من العنابر، وظل مستمراً حتى نفاد الأدوات، عندها تحول إلى مركز تدعيم الإصابات والعلاج الأوّلي، وبعد محاصرته واعتقال الطواقم الطبية علق العمل هناك، ونفس الأمر جرى مع مستشفى الشفاء.

فالمستشفى لا يغلق إلا إذا أغلقه الجيش الإسرائيلي وليس طواعية، لأن غلق المستشفى هو شكل من أشكال التطهير العرقي، والمساهمة في إفراغ جباليا وغزة القديمة.

الأمر الثاني، هو تفاني أفراد القطاع الصحي في تأدية مهامهم، دائماً ما أستخدم الدكتور محمد عبيد كمثال، الدكتور محمد جراح عظام، أطلق عليه القناص الإسرائيلي النار في مستشفى العودة، يوم الاثنين الماضي.

في بداية الحرب، بدأت ومحمد عبيد العمل في مستشفى العودة، ثم انتقلنا إلى الشفاء، وظل مع مرضاه حتى انسحاب الإسرائيليين منه، لينتقل إلى مستشفى الإندونيسي وعند قصفه انتقل إلى مستشفى العودة.

الدكتور محمد مثله الكثير من الأطباء والممرضين والعاملين في القطاع الطبي، الذين انتقلوا إلى الجنوب مع عائلاتهم والتحقوا بالمستشفيات الموجودة هناك.

فعند انهيار أي مستشفى ينتقلون مباشرة إلى المستشفى الأقرب إليه، كأن عملهم الأساسي فيه، هذا لا يعني أنه لا توجد أسباب موضوعية قاهرة تشل القطاع الصحي، لكن هناك محاولات دائمة لإعادته إلى العمل.

على سبيل المثال مستشفى الصحابة الذي يفترض أنه جزء من القطاع الخاص، ومخصص للولادة، أغلق وأعيد فتحه أكثر من ثلاث أو أربع مرات، وفي كل مرة يغلقه الإسرائيليون بالاستهداف تعيد الطواقم الطبية فتحه.

لهذا السبب أرسل الإسرائيليون في النهاية الجنود لإغلاقه كحال مستشفى العودة والمعمداني، فحتى يتوقف المستشفى عن العمل كان عليهم الدخول إلى المستشفى نفسه.

العمل الصحي كسلوك مقاوم

خلال عملكم على استدامة القطاع الصحي، ما أكثر الأشياء بديهيةً التي فقدتموها في العمل؟

ما كسر ظهرنا أدوية التخدير، في النهاية نحن غير قادرين على إجراء عمليات بدون أدوية التخدير، استمررنا بالعمل بدون "المورفين" والمسكنات، ومواد التعقيم التي استبدلناها بـ"الخل ودواء الجلي"، كما استمررنا بالعمل بدون الشاش الخاص بالحروق والذي يحتوي على الفازلين، بعد أن أضفنا الفازلين على الشاش العادي وعقّمناه، تحايلنا على كل شيء لكن في لحظة ما، خاصة في مستشفى المعمداني، عندما انتهت أدوية التخدير لم يعد بالإمكان إجراء العمليات وتحولت من مستشفى إلى مركز للرعاية الأولية.

في الإطار نفسه وخلال تجربتك في عدد من البلدان وعدد من المستشفيات، ما أبرز الميزات في أداء أطباء غزة سواء على المستوى الإنساني أو المهني؟

لا يوجد طيب في العالم يذهب إلى الدوام في المستشفى وهو لا يعلم إذا ما كان المريض المقبل سيكون ابنه أو ابنته أو أخوه أو عمه. لا يوجد طبيب في أي مكان يمكن أن يعمل وهو يتساءل عن مكان أبنائه، إذا ما كانوا تحت الركام أم لا!

لا يوجد طبيب يقرر نقل عائلته وأبنائه إلى جواره في المستشفى خوفاً من استهدافهم وهو على رأس عمله.

لا يوجد في أي مكان، الطبيب والممرض يذهب من مستشفى إلى آخر، ويعمل فيه كأنه مكان عمله الأساسي، عند انهيار مستشفى الشفاء ذهب أطباء إلى الإندونيسي وعند انهيار الإندونيسي ذهبوا إلى المعمداني، وعند انهيار المعمداني ذهبوا إلى مستشفى آخر، يعني هناك حالة من التفاني بالإبقاء على "مركزية علاج الجرحى" فوق أهمية المؤسسة الصحية.

الكارثة المستدامة ومآلاتها

حدثنا عن فكرة "الكارثة المستدامة"، إلى أين ممكن أن تصل بنا هذه الكارثة في حال بقيت من دون أي تدخل؟

استشهاد الـ50 ألف جريح بسبب إصاباتهم والالتهابات المرافقة لها، انتشار الأمراض الوبائية التي سوف تفتك بالناس. لدينا الآن نقص في المناعة بسبب سوء التغذية والإصابة، والاكتظاظ السكاني العالي، وانهيار في القطاع الصحي. هذه الظروف كافية لإنتاج وباء من الأمراض الجرثومية وهذه كلها الآن موجودة في غزة.

وهذا ما يتوافق مع الهدف الإسرائيلي الأساسي بإحداث "انهيار مدني".

الهدف من الانهيار المدني أن تقتل الأوبئة الناس من دون أن تفعل إسرائيل ذلك.

توجد محاولات لإنشاء مستشفيات ميدانية في الجنوب، ومن الممكن أن تكون هذه المحاولات داعمة للقطاع الصحي، لكنها في الوقت نفسه، وفي ظل عدم تأهيل القطاع الصحي في الشمال ومدينة غزة، قد تكون بديلة عن القطاع الصحي في غزة والشمال؟

الجيش الإسرائيلي لم يدمر فقط القطاع الصحي، إنما منع أي محاولة لإعادة بنائه، فهناك قرار إسرائيلي بمنع أي تعافي للقطاع الصحي في الشمال. بالنسبة إلى الإسرائيلي من الممكن أن يكون خلق قطاع صحي خارج حدود غزة جزءاً من عملية جذب السكان للخارج.

لكن في الوقت نفسه، توجد مقاومة فلسطينية تحاول تشغيل المستشفيات بطريقة مستدامة، وفي وعي من قبل بعض الفئات المانحة لهذا الخطر، لذا تحاول الدفع نحو إدخال مستشفيات ميدانية في إطار حدود قطاع غزة، لمنع خروج الجرحى بأعداد كبيرة.

إذا قلنا إن لدينا 50 ألف جريح، وخرج مع شخص منهم مرافق أو اثنان، نحن أخلينا قطاع غزة من 150 ألف شخص.

وهذا ما يعادل معسكر جباليا تقريباً

ما تبقى من الحرب النظيفة

أول احتكاك لك مع مفهوم "الحرب النظيفة" في حرب الخليج الأولى، وهي من أول العمليات التي جرى فيها استخدام الذخائر الدقيقة والتنظير لهذا المفهوم في الحروب، في رأيك الشكل القائم في غزة يشكل قطيعة مع هذا النموذج أم تطوراً طبيعياً له؟

هو التطور الطبيعي لها، لأن الحرب النظيفة التي جرت في التسعينيات في العراق، كانت مبنية على فكرة أن ضرب الصرف الصحي، والمياه، والكهرباء يمكن له قتل الناس أكثر من ضربهم في بيوتهم.

وهذا كان بداية فكرة أن تفكيك مفاصل الحياة المدنية يقود إلى انهيار صحي كامل، وعدد وفيات أكثر، ما فعله الإسرائيلي في 50 يوماً في غزة، احتاجت أمريكا إلى سنين من الحرب والحصار في العراق لتنفيذه.

في الفكرة نفسها قلت إن القانون الدولي في جوهره مبني على فكرة أن الأفعال التي يجري تكرارها تصبح لاحقاً مشروعة، هل يمكن أن يؤسس سلوك إسرائيل الحالي لنوع جديد من الحروب الحضرية؟

العالم أمام نقطة مفصلية في تطور الحروب، المجاهرة الإسرائيلية بتخطي كل الخطوط الحمراء، وكسر كل القوانين الدولية يمثل قطيعة كاملة مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من ناحية اتفاقية جنيف، والقانون الدولي، الذي يحاول إدارة الحروب.

هذه الحرب في رأيي إن لم يتداركها العالم، فالحرب المقبلة سوف تبدأ من حيث انتهت في المرات السابقة، الإسرائيلي انتهى بقتل 10 آلاف طفل ما يعادل 1% من أطفال غزة جرى قتلهم، 2% من السكان جرى قتلهم، الحرب المقبلة حتى لو كانت في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية سوف تبدأ من حيث انتهت حرب غزة، وهذا التحدي هو ما يواجه العالم اليوم.

هل انتهى من الحقبة الليبرالية وما بعد الحرب العالمية الثانية ورجع إلى الحروب التي لا يحكمها أي نوع من الشرائع؟ أو يريد مراجعة نفسه والسؤال حول الكيفية التي وصل بها إلى هذه النقطة؟

إسرائيل وقطاع غزة اليوم يمثل للرأسمالية العالمية مختبراً للتحكم بـ"surplus population"، في دراسة رأس المال توجد فكرة أن جزءاً من السكان هم فائض عن الحاجة، ومع تطور الرأسمالية الحديثة زادت نسبة سكان الكوكب الفائضين عن الحاجة لتوظيفهم كَيَد عاملة.

تمثل إسرائيل وقطاع غزة المختر لإدارة "surplus population" في العالم، فكما تصدر إسرائيل أسلحتها إلى العالم تحت شعار أنها جُربت تحت النار في غزة، يجري الآن تصدير المفاهيم والخبرة الإسرائيلية في التعامل مع " السكان الفائضين عن الحاجة" إلى العالم كالبرازيل، وإفريقيا، والهند، وكشمير.

ختاماً

أكثر ما لمسكم بشكل شخصي، وسيبقى معك من تجربة الحرب في غزة؟

ظاهرة الطفل المصاب المتبقي الوحيد من عائلته، وهؤلاء الأطفال وصل عددهم في الشفاء إلى 120 طفلاً، هم الناجون الوحيدون من استهداف عوائل عدة أجيال، هذه ظاهرة مرعبة، كنا نراها في مستشفى الشفاء ومستشفى المعمداني.

واختتم الدكتور غسان أبو ستة حديثه بالتأكيد على أن "الخيار الوحيد أمامنا هو الصمود لأننا أمام حرب إبادة لا خيار لنا فيها، فالطرف المقابل يريد إبادتنا وإنهاءنا ولا خيار لديك إلا الصمود.

فالصمود قرار إجباري، لا خيار لدينا فيه، ولا خيار متاحاً غيره.

TRT عربي