تابعنا
مع استمرار الحرب في غزة، تتأرجح حكومة إسرائيل تحت وقع أزمة سياسية، عنوانها التجنيد الإلزامي للحريديم، وهو ما يهدّد بانقسام في الحكومة، واضطرابات واسعة في النسيج الاجتماعي للبلاد.

بعد أن كان من المقرر مناقشتها في المجلس الوزاري، ظُهر الثلاثاء 26 مارس/آذار، قرّرت الحكومة الإسرائيلية تأجيل مناقشة مسودة التعديلات المقترحة على قانون التجنيد الإجباري، من دون تحديد موعد لإجرائها. بينما أثارت هذه الخطوة امتعاض المعارضة، التي اعتبر زعيمها يائير لابيد مبررات هذا التأجيل "سخيفة"، منتقداً ميول نتنياهو وحلفائه المتطرفين إلى إعفاء اليهود المتشدّدين وطلاب المدارس الدينية من التجنيد الإجباري.

ومنذ أسبوع، يتسبب مشروع التجنيد الإجباري في انقسامات داخل حكومة الحرب الإسرائيلية، بين رافض لتجنيد فئة الحريديم، بعدما كانوا لعقود معفين من ذلك، وبين مطالبين بتعميم التجنيد على كل الشباب الإسرائيليين، في وقت يواجه فيه جيش الاحتلال خسائر كبيرة في قطاع غزة واستمرار تهديدات فتح جبهة في الشمال. وهذه الأزمة، إن تطورت، قد تكون مدمّرة لحكومة نتنياهو، وفق ما يرى محللون.

خلافات حادة حول الحريديم

وحتى قبل اندلاع الحرب الجارية في غزة، تخلق الإصلاحات المقترحة في قانون التجنيد الإسرائيلي جدلاً واسعاً، منذ إعلانها أول الأمر شهر سبتمبر/أيلول 2023، وكانت الأحزاب الدينية الإسرائيلية، هي من تدفع بهذا القانون الذي يعفي طلاب المعاهد الدينية اليهودية وخريجي المؤسسات التعليمية الدينية من التجنيد الإلزامي في جيش الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي عبرت الأحزاب العلمانية عن رفضها له.

وبلغ هذا الشقاق بين مكونات المجتمع الإسرائيلي وأحزابه السياسية ذروته عقب اندلاع الحرب، والخسائر الكبيرة التي شهدها جيش الاحتلال وتهديدات فتح جبهة الشمال، وتزايد الضغط على حكومة نتنياهو، من قطاعات علمانية واسعة في مجتمع إسرائيل.

وكشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية، يوم الاثنين 25 مارس/آذار، عن بنود من مسودة قانون التجنيد الجديد، مشيرة إلى أنه سيمدد إعفاء خريجي المؤسسات التعليمية "الحريدية" لمدة 3 سنوات أخرى، كما سيسمح فقط بعقوبات مالية بدلاً من العقوبات الجنائية للمتهربين من التجنيد.

وفي يوم الأحد 24 مارس/آذار، هدّد عضو حكومة الحرب الإسرائيلية بيني غانتس بالاستقالة في حال أقرّ الكنيست تشريع التجنيد الإجباري، وقال غانتس: "لا يمكن للأمة أن تقبل ذلك، ويجب ألّا يصوت الكنيست لمصلحته، وأنا وزملائي لن نكون أعضاء في حكومة الطوارئ إذا أقرّ الكنيست مثل هذا التشريع".

وأضاف غانتس أن "قانون التجنيد الذي تعكف الحكومة على وضعه يعدّ خطأ أخلاقياً جسيماً من شأنه أن يوجد صدعاً عميقاً داخل (مجتمعنا) في وقت نحتاج فيه إلى القتال معاً في مواجهة أعدائنا".

وتزامناً مع تلك التصريحات، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، عن موقف بشأن القانون، مؤكداً أنه لا يستطيع دعم أي تشريع يُمرر من دون موافقة واسعة من جميع أحزاب الائتلاف، وخصوصاً حزب غانتس، كما رفض أيضاً خطة نتنياهو الأولية بتمريره بالقوة، قائلاً: إن التوصل إلى اتفاق مرن بشأن هذه القضية "ضروري للوجود والنجاح للجيش الإسرائيلي"، داعياً إلى التوصل إلى تسوية.

ويواجه نتنياهو ضغطاً شديداً بخصوص هذه القضية، حتى من أعضاء حزبه، وفي حديثه خلال اجتماع للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، صباح الثلاثاء 26 مارس/آذار، حذّر رئيس اللجنة يولي إدلشتين، رئيس الوزراء من محاولة تجاوز لجنته في السعي إلى تمرير التشريع.

وقال إدلشتين: "بدأت أسمع شائعات مفادها أنهم يخططون لمحاولة ما لتجاوز لجنة الشؤون الخارجية والدفاع (...) إننا أوضحنا منذ العام الماضي أننا لسنا مجرد ختمِ مطاطي للحكومة".

وأضاف رئيس اللجنة أن "أي محاولة للتحايل على أنظمة الكنيست ومنع لجنة الخارجية والدفاع من التعامل مع قانون التجنيد سيُرد عليها بالرد المناسب".

وحسب يوهانان بليسنر، رئيس معهد بحثي إسرائيلي، فإنه "إذا كانت هناك قضية واحدة يمكن أن تسقط الحكومة، فهي هذه (قضية تجنيد الحريديم)".

ويوضح الباحث بليسنر أن "الأمر يتعلق بمسألة حساسة للغاية حول من المستعد للمخاطرة بحياته للدفاع عن هذه الدولة المهددة؟ (...) إنها قضية لم يتمكن النظام السياسي من حلها لعقود من الزمن".

وهو الواقع الذي أكده أيضاً موشيه روث، عضو الكنيست عن حزب يهدوت هتوراة، وقال إن "تنفيذ مشروع القانون هذا يمكن أن يقوّض بشكل خطير استقرار الحكومة. ومع ذلك، أنا واثق من أنه إذا وجد أعضاء الائتلاف الآخرون أنفسهم ممزقين بين البقاء في الحكومة أو الذهاب إلى المعارضة، فسوف يتخلون في نهاية المطاف عن دعم مشروع قانون يخاطر بزعزعة استقرار الحكومة".

ما جذور الخلاف حول الحريديم؟

من جانبها، تضغط الأحزاب الدينية واليمينية المتشددة المشاركة في الحكومة من أجل إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، ورفضت تلك الأحزاب حضور الاجتماع الوزاري لإقرار التشريع، في حال لم تتضمن مسودته تمديد الإعفاء.

ويعد الحريديم أو "التُّقاه" باللغة العربية، طائفة دينية يهودية متشددة، تعتقد في أن الله حرّم عليهم الخدمة في الجيش، وأن تلك الخدمة تتعارض مع تعاليم التوراة التي تحرم الاختلاط بين الجنسين. ومنذ تأسيس إسرائيل، استفادت هذه الطائفة من الإعفاء، بقانون كان قد سنّه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفد بنغوريون.

وتمثل اليوم طائفة الحريديم نحو 13.3% من سكان إسرائيل، بتعداد يعادل 1.28 مليون نسمة، نحو 660 ألفاً منهم يبلغون السن القانوني للخدمة العسكرية الإجبارية.

وفي 2018، ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية القانون الذي يعفي الحريديم من الخدمة العسكرية، وأعاق تعاقب المرات التي اعتمد فيها نتنياهو على الأحزاب الدينية المتشدّدة في تشكيل حكومته، تنفيذ قرار المحكمة. وكانت هذه الأحزاب تنجح في عقد صفقة مع زعيم الليكود، يسمح لناخبيها بالدراسة في المعاهد اللاهوتية بدلاً من الخدمة في الجيش.

وكانت المحكمة العليا قد أمهلت الحكومة إلى حدود يونيو/حزيران 2023، من أجل تعميم الخدمة الإجبارية على اليهود المتشددين، غير أن المهلة جرى تمديدها مجدداً لـ1 أبريل/نيسان المقبل من أجل تشريع الإصلاحات، و30 يونيو/حزيران القادم من أجل تنفيذها، وهو ما أجبر نتنياهو على تمرير الإصلاح في هذه الأيام.

وزادت المدعية العامة الإسرائيلية جالي باهاراف ميارا من ضغطها على الحكومة، عندما أبلغت المحكمة العليا، في فبراير/شباط الماضي، أنه بمجرد انتهاء مهلة قانون الإعفاء، لن تتمكن الحكومة من تمويل المدارس الدينية بشكل قانوني.

بينما هناك عامل آخر لطرح التشريع، هو المستجدات الميدانية التي تفرضها الحرب في قطاع غزة، كما تزايدت التقييمات الاستخبارتية الإسرائيلية المرجحة لنشوب تصعيد في الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي أرقام حديثة حذّرت وزارة المالية الإسرائيلية من أن إسرائيل ستتلقى خسائر بحجم 100 مليار شيكل (27.5 مليار دولار) على مدى السنوات العشر القادمة، في حال استمرار الشعور في مناصب الشغل بسبب مشاركة العمال والموظفين في القتال في غزة.

ومنذ بداية الحرب، استدعت الحكومة الإسرائيلية ما مجموعه 287 ألف جندي احتياطي، وأعلنت عن مواعيد تجنيد مبكرة لنحو 1300 عضو في برامج ما قبل الخدمة العسكرية، وحثت على زيادة فترات خدمة المجندين وكذا جنود الاحتياط بشكل كبير.

في الشارع

وانتقل هذا الخلاف إلى الشارع الإسرائيلي، ليشكل مشهد التفكك الذي يطبع المجتمع الإسرائيلي، وهدّد حاخامات الحريديم بمغادرة إسرائيل في حال إجبارهم على الخدمة العسكرية، وفي خطبة له يوم الأحد 10 مارس/آذار، قال الحاخام يتسحاق يوسف: "إذا أجبرونا على الانضمام إلى الجيش، فسنسافر جميعاً خارج البلاد".

وأضاف منتقداً الحكومة: "عليهم أن يفهموا ذلك، كل هؤلاء العلمانيين لا يفهمونه؛ الدولة قائمة على دراسة التوراة، ولولا التوراة لما كان هناك نجاح للجيش".

ومنذ فبراير/شباط الماضي، يتظاهر المئات من الحريديم للمطالبة بإعفائهم من الخدمة العسكرية، وخصوصاً في مدينة بني براق التي تعد معقلهم الرئيسي، وفي مطلع مارس/آذار أغلق المتظاهرون أحد الطرق الرئيسية في المدينة المذكورة، حاملين لافتات كُتب عليها "نُفضل أن نموت على أن نُجنّد"، وتدخلت الشرطة الإسرائيلية لفضّ الاعتصام باستخدام العنف، وأظهرت مقاطع فيديو وقوع اعتقالات واسعة.

وفي تصريح لصحيفة الغارديان البريطانية، قال يانكيف فرانك، وهو شاب من الحريديم: "لن أنضم إلى الجيش أبداً، ديننا لا يسمح لنا بالانضمام إلى الجيش. أفضّل الذهاب إلى السجن بدلاً من الانضمام إلى الجيش. إذا طلبوا مني أن أفعل شيئاً يتعارض مع ديني، أفضل الذهاب إلى السجن. إذا انضممنا إلى الجيش، فسنضطر إلى القيام بأشياء تتعارض مع ديننا".

وعلى الجانب الآخر، خرج الرافضون لاستثناء الحريديم من الخدمة العسكرية أيضاً إلى الشارع، وفي يوم الثلاثاء 27 مارس/آذار تظاهر هؤلاء الرافضون أمام إحدى المدارس الدينية في بني براق، ونادوا بـ"المساواة" في تحمّل عبء الخدمة العسكرية، وهتف المتظاهرون الذين ينتمي الكثير منهم إلى حركة "إخوان السلاح" المناهضة للحكومة، "المساواة للجميع" و"الانتخابات الآن".

وتكشف استطلاعات رأي حديثة أن نحو 64% من الإسرائيليين و70% من اليهود يعارضون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، مقابل 22% فقط الذين يرفضون تعميم الخدمة العسكرية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً