مؤسس برامج الدراسات الأمنيّة النقديّة والتنفيذية في معهد الدوحة وأستاذ الدراسات الأمنية والعسكرية، الدكتور عمر عاشور (Others)
تابعنا

سلّطت الحرب على غزة الضوء مجدداً على القتال في المدن والمناطق الحضرية، ما بين الجيوش النظامية والمجموعات غير النظامية، وقبل ذلك أعاد هجوم فصائل المقاومة الناجح في 7 أكتوبر/تشرين الأول، التركيز على الأسباب التي أدّت إلى انهيار قدرة الوحدات النظامية الإسرائيلية على التصدي لهجمات المقاومة وإخفاق أجهزة الاحتلال الأمنية في التنبؤ بهذه الهجمات.

ويُرجع مؤسس برامج الدراسات الأمنيّة النقديّة والتنفيذية في معهد الدوحة وأستاذ الدراسات الأمنية والعسكرية، الدكتور عمر عاشور، إخفاق الأجهزة الأمنية في التنبؤ بنيات المقاومة الفلسطينية بدايةً، والإنذار لاحقاً، إلى فشل في "دورة الاستخبارات"، وليس بالضرورة إلى غياب المعلومات الأوليّة، التي قد تكون متوفرة لكنّ فشل عملية التحليل والتقييم أو عدم وصول المعلومة في الزمان الصحيح إلى المكان الصحيح قد يؤدي لمثل هذه الحالات من الإخفاق.

ويضيف الدكتور عاشور، المتخصص في دراسة الطرق التي تقاتل بها الدول الأضعف والدول الصغيرة وأساليب قتال المجموعات العسكرية غير النظامية، أنّ حالات انهيار الوحدات النظامية يرجع بالدرجة الأساسية إلى المفاجأة والصدمة التي تلقّتها هذه الوحدات وما ينتج عنها من غياب إرادة القتال على الرغم من توفّر الموارد لذلك، ففي حالة فرقة غزة شكّلت الضربة التي تلقّتها قيادة الفرقة سبباً في تعطل قدرتها على القيادة والسيطرة والاستجابة، ما أدى إلى حالة الفوضى التي عمّت الفرقة، بعد غارة المقاومة الفلسطينية، التي اقتصرت على ضرب المواقع الإسرائيلية وأخذ أسرى دون أن تتطور إلى تمترس أو احتلال.

وحول الدفاع الفلسطيني، يشير الدكتور عمر عاشور إلى أنّ المقاومة الفلسطينية ارتكزت على "الدفاع المرن في العمق" كاستراتيجية لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي، وذلك عبر مقايضة الأرض مقابل الوقت، وبموجبه تضحّي المقاومة بسيطرتها على الأرض التي تتقدم فيها القوات المهاجمة مقابل استنزاف وتكثيف خسائرها ما يعني استنزاف مكثف لقوات الاحتلال المتوغلة، وكان للأنفاق دور رئيسي في تمكين المقاومة من القتال كـ"نظام" يحتفظ بعناصر القيادة والسيطرة.

وفي هذه المقابلة يتناول الدكتور عمر عاشور الحرب في غزة، وتحديداً غارة المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما تلاها من اجتياح إسرائيلي في 27 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك بنظرة مقارنة ما بين ميادين المعارك المختلفة، وتحديداً تلك التي جرت في غروزني والموصل وأخيراً في أوكرانيا، فعلى الرغم من تباين المعارك وظروفها فإنّ أصل الحرب وجوهرها واحد.

7 أكتوبر/تشرين الأول: الغارة الفلسطينية وفشل "دورة الاستخبارات" الإسرائيلية

لماذا شهدنا هذا الانهيار الإسرائيلي أمام فصائل المقاومة الفلسطينية في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول؟ كيف تنهار هذه البنى الضخمة أمام عناصر ومجموعات صغيرة؟

نظرياً، الجيوش لا تنهار، إنما تتعرض أجزاء منها للانهيار والانكسار بفعل الصدمة، وغالباً ما تكون على مستوى كتائب أو أفواج أو ألوية وصولاً لفرق كاملة، كما جرى مع بعض وحدات فرقة غزة 143 التابعة للقيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي.

وذلك يرجع عادةً إلى تعرّض رأس القيادة للاستهداف، ما يؤدّي إلى انهيار جزء من نظام القيادة والسيطرة- كما جرى في حالة فرقة غزة - ما يفاقم من أثر الصدمة على الرتب الدنيا، التي عادةً ما تذهب باتجاه الارتباك والفوضى ثم الهرب.

فالسبب الأساسي للانهيار ليس عدم القدرة على القتال، إنما انهيار الرغبة في القتال، فالموارد والذخائر متوفرة، لكنّ الرغبة في القتال هي ما تغيب، والنموذج الأمثل على ذلك ما جرى في مدينة الموصل العراقية التي كانت فيها فرقتان كاملتان واحدة تابعة للجيش وأخرى للشرطة الاتحادية في يونيو/حزيران 2014..

ورغم أنّ المجموعة المهاجمة الأولى لتنظيم الدولة كانت قليلة العدد، في حدود كتيبة صغيرة من 400-500 مقاتل، ثم وصلت إلى ما يقرب من لواء صغير.

لم تهزم الفرقتان من اللواء الصغير المهاجم على الرغم من استمرار القتال لمدة 5-6 أيام، إنما من انهيار القدرة على القتال المنظم والرغبة في القتال. ذات الأمر جرى مع الجيش المصري في حرب يونيو/حزيران 1967، فمن شدّة صدمة الهجوم حدث الانهيار وأُعطي الأمر بالانسحاب الشامل على الرغم من أنّ القوات الجوية كانت هي التي تعرضت لتدمير كبير وأما خسائر الفرق المدرعة والقوات البرية بشكل عام فكان يمكن تحملها.

ما شكل العملية التي جرت في 7 أكتوبر/تشرين الأول، هل هي إغارة مغاوير أم نحن أمام نمط آخر من القتال؟ وهل نحن أمام قطعٍ مع النمط السابق لعمليات المقاومة الفلسطينية على الحدود مع قطاع غزة؟

ما جرى في عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول أقرب إلى الغارة منه إلى الاجتياح، فالسيطرة على المواقع كانت مؤقتة، دون إرادة للتمترس والسيطرة على الأرض، على طريقة القوات الروسية في أوكرانيا أو تنظيم الدولة الذي تمترس في المدن التي سيطر عليها وتحول من المهاجم إلى المدافع.

وحملت المناورة، أو الغارة الهجومية، أبعاداً متعددة وبأسلحة مشتركة، شملت الجو والبر والبحر والأبعاد الإلكترونية والسيبرانية والاستخبارية/المعلوماتية، فيما كان الهجوم البري هو الأساس.

كما كان هناك "scaling up"، على مستوى لواء أوعدة كتائب، وليس على مستوى فصيل أو سرية مع تنسيق هجومي على مستوى عدد من الأسلحة المشتركة، بأبعاد متعددة، على مستوى لواء أو أكثر.

وهذا ليس بالأمر بالسهل؛ التنسيق بين الوحدات الكبيرة عمل صعب والتدرب عليه شاق ومكلف، وفشلت فيه بعض الجيوش النظامية، وهذا يشكّل تطوراً كبيراً ومهماً على مستوى الأسلحة والعمل المشترك، ومستوى الصدمة عند الطرف الآخر كان مرتفعاً، وهو ما أدّى إلى حالة الانهيار لدى بعض وحدات فرقة غزة وبعض الوحدات الأخرى.

لماذا تفشل الأجهزة الأمنية في التنبؤ والتقدير؟ الجيش الإسرائيلي لديه ذاكرة مريرة مع فشل حرب أكتوبر/تشرين الأول، وبالنظر إلى النماذج السابقة، دائماً ما كانت هناك حالة من الإخفاق الأمني، كما في العراق و7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث الفشل في الإنذار المبكر.

لم يكن فشلاً ناتجاً عن غياب المعلومة، بقدر ما كان الفشل في "دورة الاستخبارات" التي تعتمد على عدد من الأركان، معلومة الأولوية منها، التي وإن كانت عامة إلا أن المعالجة والتحليل يعمّقها ويحوّلها إلى معلومة مُفصّلة ودقيقة.

وبعد ذلك يُرفع التحليل إلى الجهة الأعلى وصولا لصانع القرار الذي يملك عدّة خيارات؛ منها عدم قبول التحليل والتوصية أو إصدار القرار ومن ثمّ الإعداد العسكري والدخول في عملية استباقية.

في مرحلة من هذه المرحلة تعرضت دورة الاستخبارات للكسر، ليس بالضرورة عند المعلومة الأولية، ففي بيرل هاربر ضربت أمريكا الضربة الأولى وأغرقت غواصة يابانية، مع ذلك فوجئت بالهجوم الذي أدّى إلى مقتل أكثر من 2000 أمريكي.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1973، وصلت معلومات إلى الجانب الإسرائيلي حول الهجوم المصري، بعد اختراق عالي المستوى (الرئاسة المصرية)، ومع ذلك فوجئت بالهجوم، فالمعلومة لم تُحلَّل بشكل جيد ولم تصل إلى صانع القرار بالتفصيل المناسب.

الأمر نفسه حدث في هجمات 11 سبتمبر/أيلول، إذ كانت المعلومات متوفرة حول "النية الاستراتيجية" لدى تنظيم القاعدة لمهاجمة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى المعلومات التي جُمعت من جهات أمنية محلية في الولايات خارج العاصمة، ولم تصل إلى واشنطن في الوقت المناسب ولم تُحلَّل هناك بشكل جيّد.

وفي هجوم فبراير/شباط 2022 على أوكرانيا، أوصلت أمريكا معلومات دقيقة إلى القيادة الأوكرانية -حتى الصحافة كانت تعلم- حول الهجوم واتجاهه من الشمال. لكنّ القيادة الأوكرانية كانت تعتقد أنّ المقصد من التحرك في الشمال هو تثبيت القوات هناك وأنّ الهجوم الرئيسي سيكون من الشرق، لذلك لم يكن اللواء 72 مشاة ميكانيكي المختص بالدفاع عن العاصمة، موجود في العاصمة وإنما شرقها.

فالمشكلة ليست في المعلومة بقدر ما هي في ضعف التحليل والتقييم الناتج عنه، وبالتالي التوصية الخاطئة لصانع القرار، أو التوصية الصحيحة ولكن عدم وصولها للمكان المطلوب في الوقت المناسب، فدورة الاستخبارات هنا تعرضت لكسر أو عطل، ما أنتج الفشل.

وفي معظم الأحوال فإنّ الأجهزة الأمنية أو على الأقل محلليها يتنبؤون بالأمر، أو تكون لديهم المعلومة، لكن تفشل دورة الاستخبارات في إيصال المعلومة إلى المكان المناسب في الوقت المناسب.

27 أكتوبر/تشرين الأول: الدفاع في العمق فلسطينياً ودروس الحرب

لو خرجنا من 7 أكتوبر/تشرين الأول وذهبنا باتجاه 27 أكتوبر/تشرين الأول وبداية الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، والعملية العسكرية.. ما تقييمكم لشكل الدفاع الفلسطيني وقدرته على إفشال المخططات الإسرائيلية؟ هل من جديد في حرب المدن على صعيد تجربة قطاع غزة؟

نموذج حروب المدن هو المتوقَّع له أن يسود في الفترة المقبلة. توجد متغيرات على المستوى الكلي، على رأسها الاكتظاظ الهائل للسكان، الذي لم يسبق أن شهده الكوكب. وأكثر من نصف سكان الأرض الآن يعيشون في المدن، وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، ما يعني أنّ نصف احتمالات القتال في العالم ستجري في المدن أو مناطق مبنية.

أنا من المدرسة التي ترى أنّ طبيعة الحرب وخصائصها لم تتغير كثيرا، وإنما الإبداع التكنولوجي هو ما يتطور بسرعة كبيرة، ويُنتج إبداعاً تكتيكياً وتغيّراً في ال techniques والإجراءات وتكيّفاً على المستوى الاستراتيجي، بمعنى الانتقال من طريقة قتال إلى أخرى، حتى بعض التغيرات العملياتية في القتال لها أصول وثوابت لم تتغير كثيرا منذ بدايات القرن الماضي.

ما يميّز 27 أكتوبر/تشرين الأول، أنّ المقاومة الفلسطينية كانت لديها 9 سنوات من إعداد الخطوط الدفاعية وتحديداً الأنفاق التي أتاحت للمقاومة أن تضع استراتيجية دفاعية قائمة على "الدفاع المرن في العمق"، بمعنى أن تقاتل بمرونة ومناورة في عمقك وتحت أرضك.

فالأنفاق شكّلت "خطوط التواصل الأرضي" أو ما نسمية كخبراء ب" ground lines of communication"، فخطوط التواصل صارت تحت الأرض وليست فوقها، ما حال دون استهدافها وعزل قوات المقاومة بعضها عن بعض.

هذا الأمر تجاوزته المقاومة بفضل الأنفاق، وقاتلت بوصفها "نظاماً" يتّسم بالقيادة والسيطرة، وهذا جزء أساسي مما أتاحته الأنفاق، التي وفَّرت كذلك ركنين من أركان الفاعلية القتالية: الحركة والحماية.

ومثل جميع أنواع وسائل القتال والذخائر والأسلحة، الأنفاق لها صلاحية معينة، فهي توفر بعض الوقت للمدافع، إذ إنّ فلسفة الدفاع في العمق تقوم على مقايضة الأرض بالوقت.

ويأتي هنا سؤال: ماذا تفعل بالوقت؟ عادةً ما تسعى الفصائل إلى استنزاف القوات المهاجمة في ظل حساسيتها للخسائر، لكن في النهاية وفي ظل الحصار فإنّ فاعلية هذه الأسلحة سوف تتراجع.

الموصل مثلاً اخذت من تسعة إلى عشرة أشهر وفي النهاية نفدت الذخيرة لدى طرف تنظيم الدولة، لكنّ القوات العراقية تحمّلت الخسائر ببسالة وأكملت، فالفرقة الذهبية التي كانت تقود العملية وكان لديها 14 كتيبة، قادتها جميعاً قُتلوا في العملية.

فلو تحمّلت القوات المهاجمة الخسائر من الممكن لها النجاح، لكن في الحالة الإسرائيلية يظهر عكس ذلك، فلو نظرنا إلى تجربة جنوب لبنان التي انسحبت إسرائيل منه بسبب 300 قتيل في 15 عاما، يظهر أن الجيش الإسرائيلي حساس للغاية للخسائر.

دائماً ما جرى استحضار نماذج القتال السابقة في غروزني والموصل والفلوجة.. ما المشترك بين هذه المعارك؟

كل المعارك مختلفة، وإن كان فيها الكثير من المتشابهات، والكثير أيضا من الاختلافات، فكل معركة فريدة من نوعها.

طرق القتال التي تُجرّب وتُثبت فاعليتها تتحول إلى دروس في فن وعلم الحرب وتنتقل وتتكرر ويُستفاد منها، هذا الأمر رأيناه في عمليات المسيّرات مثلاً والتي استُخدمت بكثافة في الموصل ومنها انتقلت إلى اليمن وأوكرانيا وغيرها لاحقاً.

وحتى على مستوى "الدفاع في العمق" القائم على أسلوب مقايضة الوقت بالأرض، جرى تجريبها في حرب أوكرانيا، قبل أن تنتقل القوات المسلحة الأوكرانية إلى الهجوم المضاد والتمسك بكل شبر من الأرض.

الجانب الإسرائيلي يستفيد كذلك من الدروس خصوصاً في جانب الحرب على مسيّرات القسام والحرب الإلكترونية ضد المسيّرات.

معارك غروزني 1994-1996 كانت بمثابة المدرسة الأولى في كيفية قتال الطرف الأضعف الأقل عدداً وعتاداً تحت الحصار ودون دعم حقيقي، فهي مازالت من أهم نماذج حروب المدن، وتحديداً في استخدامات مضادات الدروع في المناطق المبنيّة.

وفي أوكرانيا، حالت الدفاعات الجوية دون تطبيق سياسة الأرض المحروقة عليها، لكنّها غابت عن بعض المدن كما كان الحال في ماريوبول التي افتقدتها، ما أدى في النهاية إلى حدوث مأساة شبيهة بالتي جرت في غروزني وحلب للطرف المدافع.

أمّا الموصل 2014 فهي المعركة المعجزة التي قاتل فيها مهاجم واحد أمام عشرة مدافعين ودون غطاء جوي أو قوة مدرعة معتبرة، ومع ذلك نجح المهاجم، وهذا الأمر يرجع جزئياً إلى الفشل الاستخباري الذي جرى. فالاستخبارات العراقية نجحت في اختراق تنظيم داعش، ووصلت إلى معلومات حول الهجوم، كما قتلت رئيس المجلس العسكري في بداية المعركة، ومع ذلك فشلت القوات العسكرية والشرطية في صد الهجوم.

TRT عربي