تابعنا
عند النظر إلى البلدان التي حدثت فيها هجمات اليمين المتطرف، يتبين أن الغرب لا يزال يحمل هيكلاً ذهنيّاً استشراقيّاً، حيث يسود الاعتقاد بـ"تفوق العنصر الأبيض" منذ عهد رينان الفرنسي، ذلك الاعتقاد الجدير بالتفنيد والتصحيح.

نشرت أكاديمية الاستخبارات الوطنية التركية تقريراً حول الارتفاع المستمر لليمين المتطرف في العالم، وذلك خلال حفل أُقيم بمناسبة الذكرى السابعة والتسعين لتأسيس الوكالة.

ويوضح التقرير، الذي يتألف من 61 صفحة، تطوُّرَ الحركات اليمينية المتطرفة الناشئة، خصوصاً في المجتمعات الغربية، مستنداً إلى البيانات الإحصائية، وأمثلة واقعية، كما يتناول نطاق اليمين المتطرف أولاً من خلال تحديد مفاهيم مجموعة (XRIRB) مثل العنصرية وقضايا الإسلام والهجرة والمرأة، وحتى معاداة اليهود.

تقرير أكاديمية الاستخبارات التركية

التقرير الذي يستند إلى مثالَيْ النازية الألمانية وحركة الكو كلوكس كلان (KKK) العنصرية في الولايات المتحدة، مرجعَين في ارتفاع أسهم اليمين المتطرف، يؤكد بشكل خاص التحول نحو معاداة الإسلام التي تزايد ظهورها بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول.

وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى أن 1700 شخص فقدوا حياتهم بعد 114 هجوماً من اليمين المتطرف على مستوى العالم عام 2023، ويسلط الضوء على زيادة بنسبة 320% في هجمات اليمين المتطرف في الفترة من 2014 إلى 2018، مشيراً إلى أن اليمين المتطرف يُنظر إليه باعتباره تهديداً إرهابيّاً من مجلس أوروبا.

يقدّر تقرير الوكالة أن اليمين المتطرف لا يزال في مرحلته المبكرة على مستوى التنظيمات، فيما يسلّط الضوء على كثافة التواصل بينها في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً في فترة جائحة كورونا، كما يُسلط الضوء على زيادة الهجمات من الأفراد الذين اعتنقوا وجهات النظر المتطرفة، المعروفين بـ"الذئاب الوحيدة"، وتُصنف هجمات اليمين المتطرف في هذا السياق على أنها ذات دوافع دينية، أيديولوجية، وانفصالية.

ومن خلال استقراء حركات ازدراء القرآن الكريم التي بدأت تشهد تزايداً كبيراً في الدول الاسكندنافية، يؤكد التقرير أن أكثر أعمال اليمين المتطرف نشاطاً منذ أغسطس/آب 2023 كانت تلك التي جرت في إطار معاداة الإسلام.

وتُظهر خريطة التركّز في التقرير نفسه أن الولايات المتحدة وألمانيا تشغلان موقع الصدارة في هجمات اليمين المتطرف، بينما تبرز إلى جانبهما دول أخرى مثل المملكة المتحدة وكندا والسويد وفرنسا والنمسا وأستراليا وبلغاريا.

عند النظر إلى البلدان التي حدثت فيها هجمات اليمين المتطرف، يتبين أن الغرب لا يزال يحمل هيكلاً ذهنيّاً استشراقيّاً، حيث يسود الاعتقاد بـ"تفوق العنصر الأبيض" منذ عهد رينان الفرنسي، ذلك الاعتقاد الجدير بالتفنيد والتصحيح.

ومعلوم أن الاستشراقية قد جرى طرحها من المجتمعات الغربية لفرض نظامها الاقتصادي الاجتماعي على بقية العالم تحت اسم "الاستعمار"، وربما هذا التفكير السلبي أو الجنوح إلى التفوق هو السبب في كون اليمين المتطرف لا يزال يحافظ على وجوده في الغرب.

ومع ذلك، فإنه من المفيد تقديم تحليل واستنتاج دون الانغماس في الخطأ المشهور الذي يتمثل في تناول المجتمع الغربي على أنه هيكل ثقافي منظم، إذ يجب أن ندرك وجود أفراد ومنظمات داخل المجتمع الغربي تحترم التنوع وتهتم بالنقد الذاتي الاجتماعي.

الأسباب وراء صعود اليمين المتطرف

تُعتبر البيانات التي قدمتها أكاديمية الاستخبارات الوطنية نقطة انطلاق جيدة في سياق تقديم تحليلات واستنتاجات بشأن اليمين المتطرف، ومع ذلك، يتعين تقديم إجابة شاملة عن سؤال "لماذا" وتحديد التدابير التي يجب اتخاذها بشكل مفصل خلال النقاشات الجارية بشأن اليمين المتطرف.

ورغم أن تقرير الأكاديمية التركية قد أجاب جزئيّاً عن سؤال "لماذا يتصاعد اليمين المتطرف؟"، فإنه من المفيد التفحُّص عميقاً للترابط بين السبب والنتيجة التي قدمها تقرير الأكاديمية ملتزماً الأعراف واللباقة الرسمية، ثم يمكن لاحقاً تقديم التدابير اللازم اتخاذها مقترحاً سياسيّاً.

إحدى الطرق البسيطة لحل مشكلة ما هي إلصاقها بفرد أو مجموعة، وبمعنى آخر البحث عن "كبش فداء" وإلصاق التهم به، قد يكون إحدى الطرق الشائعة التي تسلكها نفسية الإنسان لحل عقدة ما.. على سبيل المثال، إذا أخذنا هتلر مثالاً، نلاحظ أنه ألقى باللائمة على الغجر واليهود وحمّلهم مسؤولية هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ويمكن أن تُذكر هجمات الحادي عشر من سبتمبر حينما جرى تحميل المسؤولية لجميع المسلمين بفضل أفكار تنظيم "القاعدة" المتطرفة، في هذا السياق، عبّر الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، عن "روح الصليبية" بطريقة لا تليق برئيس أمريكي.

على الجانب الآخر، يجب التذكير بأن خطابات السياسيين الذين يتمتعون بموقع ريادي، لها تأثير قوي، خصوصاً في الجماهير غير المتعلمة، لهذا السبب، يُمكن القول إن السياسيين غير الواعين المحمّلين بعُقدة النقص قد لعبوا دوراً في تصاعد اليمين المتطرف.

كما أن تصاعد اليمين المتطرف يعبّر عن رغبة الأفراد في الاندماج في هويتهم الجماعية، وبمعنى آخر، يميل الفرد إلى التعريف بنفسه مندمجاً مع هوية مجتمع معين.

إن الميل لربط الذات بتمثيل عام للأحداث يمكن أن يكون عملية طبيعية، رغم أن هذا الميل يظهر أحياناً بصورة تُبرَّر بعدم اعتبار "العداء" العام بصورة جماعية، ومن الممكن أحياناً أن يُحاكم الأفراد الذين يتبنون هذا التوجه بالتصريحات "المتطرفة"، بسبب القلق على الهوية الجماعية، لذا يُعتبر قبول التصريحات "الراديكالية" والالتحام بها وسيلة للشعور بالأمان، حتى وإنْ لم يؤمن الفرد بها.

سبب آخر يعود إلى رغبة الأفراد في الاندماج مع هويتهم الجماعية، فالفرد يميل إلى التعبير عن نفسه متمازجاً مع هوية مجتمع معين، ويمكن أن يكون التوجه لربط الفرد نفسه بالجماعة عملية طبيعية، لكن هذا يسفر عن ظهور الأفراد الذين يعمِّمون الانطباعات الأولية والصور السلبية دونما مساءلة أو تَحَرٍّ، فيتبنى الأفراد المبادئ والشعارات العنصرية الحادة ليشعروا بالأمان حتى وإنْ لم يؤمنوا بها في حقيقة الحال.

وبالتالي، يظهر أن الأفراد الذين حصلوا على تعليم جيد قد يدافعون -بالتصريح حيناً وبالصمت حيناً- عن "التطرف" الذي يُفرض عليهم، رغم عدم اعتناقهم الفكرة، بدافع "الحفاظ على هوية المجتمع"، وهذا الميل الذي يُمكن تصنيفه انحرافاً فكريّاً، يعرقل محاولات كبح جماح اليمين المتطرف، وبعبارة أخرى، يُطلق العنان للقادة غير الرسميين والمحرضين بدلاً من قادة الرأي الذين يصرحون ببيانات متزنة تغلّب صوت العقل.

وبكل أسف، فإن الطبقة العامة من مناصري اليمين المتطرف تبذل بيعة غير مشروطة لأولئك القادة الذين يتحولون في نظر مناصريهم إلى زعماء معصومين من الخطأ.

نقطة أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار، وهي أنه ومع زيادة مستوى التسييس والتنظيم في الآراء اليمينية المتطرفة، يسفر المشهد عن مجموعات مصالح جديدة تشكِّل بيئتها الاقتصادية، فالأفراد الذين يحصلون على مكاسب تجارية أو مهنية نتيجة للتفاعل الاجتماعي يبدؤون دعم اليمين المتطرف، كما يمكن استخدام جزء من الدخل المحقَّق في تمويل أنشطة اليمين المتطرف.

ويبدو أن الجريمة المنظمة وتنامي العصابات تستفيدان من صعود اليمين المتطرف، إذ يدفع الوصول السهل إلى المال (مثل الابتزاز) هذه العصابات إلى اتخاذ اتجاهات مثل العنصرية.

وعلى الجانب الآخر، يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً عدم قدرة المجتمعات الغربية على التواصل مع الهُويات الدينية أو العرقية المتنوعة في بلدانها، التي تعيش معها حالة استقطاب، ولهذا سببان، فالأول هو الخسائر التي يعيشها أولئك الذين يرون أنفسهم المالكين الحقيقيين للبلاد، وهذا الوضع يجعل الأشخاص الذين لا يجدون وظائف أو الذين لا يستطيعون الزواج أو لا يستفيدون تماماً من المساعدات الاجتماعية، أو يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة، يعتبرون الأجانب هم المذنبين المسؤولين عن هذا الوضع.

أما السبب الثاني، فهو أن الذين يحاولون إنشاء مساحة لأنفسهم في الغرب يسعون للحفاظ على ثقافاتهم على النسق "المحافظ المتشدد"، وينظرون إلى الاندماج على أنه "اندثار"، وهذا الوضع الذي يؤدي إلى الاستقطاب والتعسكُر يكون بمثابة الشحنة السلبية التي تشعل الاستقطاب، واجتماع القطبين في هذه الحالة يمكن أن يؤدي إلى صراع فكري وجسدي.

ينبغي التطرق إلى السياسيين ودورهم، وفقاً لتقرير أكاديمية الاستخبارات التركية، فقد أصبح من السلوك المعتاد أن تلجأ التوجهات السياسية إلى التيارات اليمينية المتطرفة بدافع الخوف على أصوات الناخبين.

في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وهولندا والنمسا، بدأ السياسيون اليمينيون المتطرفون استغلال أجندة العالم لكسب شعبية مع تصاعد تفوق البيض وتصاعد العنصرية.

أما في البلدان التي تكون فيها المسيحية الكاثوليكية قوية مثل فرنسا، يجد اليمين المتطرف أرضية مشروعة لمعاداة الإسلام، بينما ترى الأرثوذكسية اليونانية في معاداة الإسلام والتُّرك إستراتيجية سياسية سهلة وقابلة للتحقيق، ويمكن للفرد الذي يشكو من وضعه الشخصي الراهن منح الدعم لهذه التيارات بسهولة.

من الممكن زيادة عدد هذه الأسباب أو تفصيلها بشكل أكبر، لكن إلى جانب ذلك، يجب التعامل أيضاً مع سُبل الحل، فرغم أن الشعوب الشرقية تشكو من صعود اليمين المتطرف، فإن الاعتقاد بأهمية اتخاذ الإجراءات حيال ذلك لا يكون حاضراً بالدرجة نفسها.

تدابير لمواجهة تصاعد المدّ اليميني المتطرف

إذا كان اليمين المتطرف مرضاً فإن دواء هذا المرض يكمن في التواصل وفي التعبير عن النفس وأخذ حساسيات القطب الآخر بعين الاعتبار، وقد تفسر الثقافات الشرقية كلمة "تواصل" على نحو يرتبط عادة بتبليغ الأفكار المتبناة إلى الآخر وعمل البروباغندا، لكن في الواقع هذا الفهم خاطئ.

إن خيار تخفيف الأفكار المتطرفة في المجتمعات الغربية من خلال فرض دين أو هوية ليس واقعياً، بل يجب أن يوجد تبادل لرسائل مختلفة في إطار هذا التواصل.

يجب أن تكون الرسالة الأولى "أنا لستُ تهديداً لك"، وبمعنى آخر يجب الرد على الاعتقاد السائد لدى اليمين المتطرف بأننا "تهديد على الهوية"، وهذا يكون بتبني التسامح الذي تتطلبه القيم العالمية، لذا الاقتراب من اليمين المتطرف الغربي من منظور ديني أو عبر إبراز الرموز القومية، هو سبب لزيادة العمق بين القطبين.

ينبغي تأكيد خاصية التفاعل الإيجابي وبناء القيم المشتركة، وقد شارك المجتمع الأسود في الولايات المتحدة في الجيش الأمريكي بزيّ الجيش الرسمي في الحرب الأهلية والحروب العالمية، وهو ما كسر هيمنة البيض على السلطة، ورغم أن عملية "التقبل" استمرت حتى السبعينيات، فإن انضمام السود إلى سجل "الدماء التي سالت من أجل الوطن" جعل الآراء اليمينية المتطرفة غير صالحة، لذا يجب أن يجري إيجاد رسالة "أنا لستُ تهديداً" بجانب رسالة "التشارك في مواجهة الآلام المشتركة"، للحدّ من صعود اليمين المتطرف.

أما الرسالة الثانية، فهي زيادة التفاهم ومستوى الوعي العام من خلال حشد التكوين الفكري والتراكم المعرفي لـ"تفكيك" الأفكار اليمينية المتطرفة وجعلها بلا معنى، وفي هذا الإطار يمكن أن تكون جهود الدول والمنظمات الدولية ذات قيمة، إلا أن أخذ زمام المبادرة من منظمات المجتمع المدني ولمسها القضية بنظرة موضوعية يمكن أن يكون أكثر فاعلية، إذ إن رسائل وتصريحات المؤسسات والشخصيات التي يقدرها ويقدسها اليمين المتطرف لها فرص أكبر للنجاح مقارنة بجهود الدول والمنظمات مثل الأمم المتحدة.

من المهم أن نكون حذرين في اختيار المصطلحات، فالغرب يصف تشوهاته وتحيزاته الاجتماعية بمصطلح "تطرف" (extremism)، ولكن عندما يكون "الآخر" يبني موقفه بدافع ديني أو عقائدي يجري استخدام مصطلح "الراديكالية"، وهذا التصنيف خاطئ.

فتحويل التطرف الغربي إلى شكل أكثر ليونة وقابلية للاستيعاب من الراديكالية يؤدي إلى المفاضلة وتفضيل مرض واحد على الآخر، فاليمين المتطرف والتطرف الديني والهوس الماركسي، جميعها حالات مشوهة بالتساوي، وجميعها تعتبر راديكالية.

في النهاية، اليمين المتطرف مرض وتشوه اجتماعي، وعلاج هذا المرض يتطلب فهم الأسباب الأساسية بشكل صحيح وتفعيل الحلول العقلانية، والحقيقة أن اليمين المتطرف كان سبباً في الحرب العالمية الثانية، وإذا لم يُعالَج هذا المرض، يبدو أن الانجراف نحو كارثة عالمية أخرى أمر لا مفر منه.

لذا من الضروري تحديد وتشخيص ومعالجة جميع أشكال التطرف، هذه المهمة تقع بالأساس على عاتق منظمات المجتمع المدني والمجتمع الأكاديمي، وإذا لاحظنا أن الفارق الأساسي في هذه القضية هو المستوى التعليمي والمعرفي، لا الانتساب أو العائدية الأيديولوجية أو الدينية أو القومية، فإنه يمكن لنا القول إن الخطوات الفعالة تعتمد على التوعية والتواؤم.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي