تابعنا
رأى نتنياهو في تصريحات أن إثارة قضية تجنيد المتدينين سوف تؤدي إلى "تمزيق وحدة المجتمع الإسرائيلي الضرورية من أجل تحقيق الانتصار على حركة حماس وتحقيق أهداف الحرب في غزة".

أعاد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في مؤتمره الصحفي الذي عقده من مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في 28 فبراير/شباط الماضي، قضية تجنيد اليهود المتدينين "الحريديم" إلى واجهة الأحداث، وذلك بعد إعلانه أن "قضية التجنيد أصبحت مهمة قومية" في ظل "الحرب الوجودية على الوطن"، إشارةً إلى الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.

وأكد غالانت أنه "لن يقدم قانون تجنيد المتدينين للكنيست من دون موافقة جميع كتل الائتلاف الحكومي"، وهو ما يعني تكبيل يد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووضعه أمام خيارات صعبة يُضطر فيها إلى الاختيار بين "المصالح القومية" والأمنية الحيوية لإسرائيل، وما بين شركائه "الطبيعيين" من المتدينين.

خطوة غالانت وخروجه العلني بمثل هذا الالتزام (موافقة كل أطراف الائتلاف) تمنح رئيس حزب "معكسر الدولة" وعضو مجلس الحرب الاسرائيلي بيني غانتس قوة إضافية، وتجرد نتنياهو من قوته التي يمتلكها من خلال تحالفه مع المتدينين والأحزاب اليمينية المتطرفة الذين يمتلكون معاً أغلبية عددية داخل الكنيست (64 عضو كنيست) تُمكّنهم من تمرير أي قانون من دون الحاجة إلى أصوات حزب غانتس، وهو ما يعني أن غالانت منح غانتس حق الفيتو على أي تشريع لا يحظى بإجماع الأحزاب العلمانية وتتوافق عليه الأحزاب غير الدينية.

بدوره رأى نتنياهو في تصريحات خلال مؤتمر صحفي في 29 من فبراير/شباط الماضي، أن إثارة قضية تجنيد المتدينين سوف تؤدي إلى "تمزيق وحدة المجتمع الإسرائيلي الضرورية من أجل تحقيق الانتصار على حركة حماس وتحقيق أهداف الحرب في غزة"، كما أنها ستقود إلى سقوط الحكومة والذهاب إلى انتخابات تعيد إنتاج الانشقاقات والخلافات الداخلية و"تخدم أعداء إسرائيل"، متعهداً بتقديم "إطار لقانون متفق عليه" يضمن حل أزمة تجنيد اليهود المتدينين.

أزمة تاريخية وظرف حساس

تعد أزمة إعفاء أبناء اليهود المتدينين من التجنيد الإجباري في إسرائيل واحدة من أقدم الأزمات التي رافقت نشوء إسرائيل، إذ استجاب رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون، في أول حكومة شُكلت عام 1948 لطلب حزب "أجدوت يسرائيل" الديني بإعفاء 400 طالب في المدارس الدينية من التجنيد للتفرغ لدراسة التوراة.

في العام التالي وعند إقرار "قانون الخدمة العسكرية" استخدم بن غوريون بنداً في القانون (البند 12) لإعفاء طلبة المدارس الدينية من التجنيد، وهو القرار الذي عبَّر بعد عشر سنوات عن رغبته في التراجع عنه وتعديله "على ضوء ازدياد أعداد المتدينين"، إذ تولى مدير وزارة الأمن عام 1958 شمعون بيرس، تقييد الإعفاء من التجنيد ليطول فقط مَن يدرسون بشكل فعليّ وأن من يترك الدراسة في المدارس الدينية قبل سن 25 عاماً سيُجند للجيش.

بقيت قضية إعفاء المتدينين من الخدمة من دون حلول جذرية ومثار خلاف بين الأحزاب الإسرائيلية طوال الوقت، وشهدت تعديلات وصيغ حل ومسودات قرارات لجان مختصة، إلى أن تحولت إلى قضية أمام القضاء الذي اتخذ قرارات عدة كانت تترك لوزير الأمن "هامشاً من الحرية" في تقرير استمرار إعفاء المتدينين من الخدمة، مقابل الأصوات التي كانت تطالب بتجنيدهم، تجسيداً لمبدأ "المساواة في تحمل الأعباء".

وأُبقي الصراع قائماً بين قيمتين؛ القيمة الروحانية التي تُعلي من شأن دراسة التوراة، والقيمة التي تُعلي من شأن المساواة في المساهمة في تحمل أعباء الخدمة والحاجات الأمنية، وهو صراع لم يُحسم حتى يومنا هذا بسبب تنامي قوة الأحزاب الدينية والاعتبارات الانتخابية والحزبية لرؤساء الوزراء الإسرائيليين، وبسبب الحساسيات الاجتماعية داخل نسيج المجتمع الإسرائيلي.

حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، عام 1999 حل المعضلة المزمنة من خلال تشكيل لجنة أطلق عليها اسم "لجنة طال" نسبةً إلى رئيسها القاضي تسفي طال، التي قدمت توصيتها بعد عام، لكنها أبقت على جذر الأزمة من خلال اعترافها بحق مَن يؤمن بأن "التوراة هي عقيدته وعالمه ويكرس حياته لها" مع التشديد على "المراقبة والتأكد" من جدية والتزام هؤلاء الطلاب بمدارسهم الدينية.

المحكمة العليا تنتصر للحق في المساواة

أصبح قرار "لجنة طال" مادة صراع قانوني في المحكمة الإسرائيلية العليا، على اعتبار أنها "كرَّست عدم المساواة"، وهو ما دفع المحكمة العليا في عام 2006 إلى تبني وجهة نظر ترى أن القانون "يمس الحق في المساواة" بحيث وضعت الحكومة الإسرائيلية أمام خيار إمّا تعديله وإما تمديده، وهو ما أقدمت عليه بأمرٍ طارئ لمدة خمس سنوات بقيت تتجدد إلى أن قررت المحكمة العليا في 2012 إلغاء قرارات "لجنة طال"، وهو ما قاد إلى صياغة أول قانون تجنيد إسرائيلي ينص على عدم إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية.

وأُقر القانون الذي جرت صياغته في 2014 بمبدأ "الخدمة الإلزامية للجميع" مع إعطاء المتدينين (والعرب لأول مرة) إمكانية الاختيار بين خدمة عسكرية مقلصة (24 شهراً) وخدمة مدنية لمدة سنة ونصف مع إعفاء 1500 طالب كل عام من الخدمة، والأهم هو الربط بين ميزانيات المدارس الدينية التي تتلقاها من الدولة والتزامها تنفيذ قانون التجنيد.

القانون المقترح لم يلقَ ترحيباً من حكومة نتنياهو في تلك الفترة، وجرى تشكيل لجنة وزارية جديدة عرضت صيغة مختلفة أُقرت في لجنة خاصة داخل الكنيست، نصت على أن تحدد الحكومة "عدداً مستهدفاً للتجنيد سنوياً" من بين المتدينين على أن لا يقل عن 3300 مجند في السنة الأولى، بالإضافة إلى تقديم محفزات اقتصادية تسهم في دمجهم في سوق العمل وهو ما لم ينفَّذ بسبب الانتخابات عام 2015 وتشكيل نتنياهو حكومة جديدة بالشراكة مع المتدينين.

من السياق التاريخي يتضح أن قضية تجنيد ودمج المتدينين اليهود في الجيش والاقتصاد تحتاج إلى قرار يُلزمهم بذلك، ويوازن بين متطلباتهم الروحية ومساهمتهم الأمنية والاقتصادية، وهو قرار يستلزم وجود حكومة قوية ذات قاعدة اجتماعية وسياسية عريضة، لا ترتهن إلى أصواتهم ولا تخشى من ردة فعلهم وآثار القرار الداخلية.

يفتقر رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى كل هذه المقومات، وهو رغم الأزمة غير المسبوقة التي تعيشها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (عملية طوفان الأقصى) والتي قادت إلى الدخول في حرب هي الأطول التي تشنها إسرائيل منذ إنشائها، ورغم التحديات الوجودية التي تفرضها هذه المواجهة، ما زال يتمسك بتحالفه مع المتدينين، وهو ما يُقيّده عن كسر الحاجز الزجاجي في قضية إعفائهم من الخدمة العسكرية.

لم يختلف سلوك نتنياهو الانتهازي بعد الحرب عمّا قبلها، وهو ما دفع وزير الأمن يوآف غالانت، الذي يُعد المُعبّر عن توجهات المنظومة الأمنية التي يرأسها، إلى طرح قضية التجنيد على ضوء الحاجات الأمنية المستجدة (الجيش أعلن أنه بحاجة إلى 7000 جندي جديد)، وعلى ضوء التغيرات التي تشهدها إسرائيل داخلياً وازدياد الحاجة إلى دمج المتدينيين لتقليل التوترات الاجتماعية الداخلية وسدّ الحاجات الأمنية، إذ تصل نسبة مشاركتهم في التجنيد وفق إحصائيات الكنيست (العام الحالي) إلى أقل من 1% من عددهم الكلّي الذي يزيد على 13% من تعداد سكان إسرائيل.

حاجة نتنياهو إلى الأحزاب الدينية في تأمين أغلبية لائتلافه الحالي تُكبِّله، وهو ما يشير إلى أن وزير الأمن يوآف غالانت الذي ينتمي إلى حزب الليكود الذي يرأسه نتنياهو قرر تحدي نتنياهو، والاستقواء بشركائه من المعارضة (بيني غانتس) الذين انضموا إلى كابينت الحرب بسبب حالة الطوارئ ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يشير إلى عمق الأزمة الداخلية، وعدم قدرة الحكومة الحالية على ،الاستمرار وأن سقوطها من الداخل، أو بفعل الضغط الشعبي ما بعد انتهاء الحرب هو أمر حتميّ، سواء كان هذا بسبب المتدينين أو تداعيات الحرب والتغيرات العميقة التي أحدثتها، والتي لا يستطيع نتنياهو أن يجابهها ما دامت أولويته هي الهروب من القضاء والحفاظ على مستقبله الشخصي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً