تابعنا
مع طول أمد القتال والخسائر الكبيرة في الأرواح بين المدنيين بدأت الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل من أجل الانتقال إلى المرحلة التالية من الحرب، التي يتركز فيها القتال على أهداف محددة ومنشآت عسكرية والدخول في صفقة تبادل لاستعادة الأسرى وإنهاء الحرب.

بلغ التصعيد الكلامي بين الإدارة الأمريكية وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ذروته، من خلال تصريحات رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، في 14 مارس/آذار الحالي، التي طالب فيها بـ"الذهاب إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل" تُستبدل فيها الحكومة المتطرفة، بعد أن "وصل نتنياهو إلى نهاية دربه، وأصبح عقبةً أمام السلام".

تصريحات شومر تأتي بعد أيام من تصريحات شبيهة أطلقتها نائبة الرئيس الأمريكي جو بايدن، كامالا هاريس، التي استقبلت الوزير الإسرائيلي وعضو الكابينت المصغر بيني غانتس، من دون التنسيق مع نتنياهو، دعت فيها إلى التمييز بين "حكومة إسرائيل" و"الجمهور الإسرائيلي"، ومن قبلها انتقادات الرئيس الأمريكي نفسه لنتنياهو، وهو ما يشير إلى وصول العلاقة إلى منحدر خطر وعلني، وكل هذا في ذروة الحرب على غزة، وفي ظل التهديد الكامن في الجبهة الشمالية (حزب الله)، ومخاطر تفجر الأوضاع في الضفة الغربية.

نقاط الخلاف واللقاء

نشر مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 28 فبراير/شباط الماضي بحثاً حول أهمية العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية والمراحل التي مرّت بها خلال الأشهر الستة الماضية (منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023) التي تميزت بالاحتضان الكامل والحميميّ من الرئيس الأمريكي جو بايدن، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والدعم العسكري والاستراتيجي غير المحدود، والتي انتهت بالانتقادات والصراع حول شكل المرحلة بعد "اليوم التالي للحرب".

وقفت الإدارة الأمريكية بشكل جارف إلى جانب إسرائيل، وبلغ دعمها لها ذروته في زيارة الرئيس الأمريكي إسرائيل خلال الحرب، والمشاركة في جلسات الكابينت، وإلقاء تهديدات متوعدة تجاه أي جهة تحاول استغلال الحرب لإشعال جبهة أخرى، رافضاً أي محاولة لوضع خطوط حمراء أمام إسرائيل أو محاولة تقييد حربها على غزة بسقف زمني.

رغم تشكيك الإدارة الأمريكية في قدرة إسرائيل على تحقيق أهداف الحرب (القضاء على حماس وعودة الأسرى)، وتحفظها على استهداف المدنيين وعلى الآثار الإنسانية الكارثية للحرب، تواصَل الدعم الأمريكي لها على مسارات عدة:

الدبلوماسي: ألقى بايدن مظلة دبلوماسية منذ اليوم الأول للحرب لحماية إسرائيل وحشد الدعم الدولي لها من خلال إعلان مشترك (أمريكي، وفرنسي، وإيطالي، وبريطاني، وألماني) عبّر عن "إدانة حماس، ودعم مطلق لإسرائيل"، تبع ذلك اللجوء إلى حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات لمنع صدور قرارات في مجلس الأمن دعت إلى وقف الحرب وحماية المدنيين وإنهاء الحصار على غزة، كما جمدت الإدارة الأمريكية دعمها لمنظمة "أونروا" بعد اتهام إسرائيل أعضاء فيها بأنهم أسهموا في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

العسكري: بعد يوم واحد فقط على عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حركة حماس في غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن الرئيس ووزير الدفاع الأمريكيان، إرسال رزمة مساعدات فورية إلى إسرائيل بقيمة ملياري دولار (وصلت إلى 14.3 مليار) تلاها إطلاق قاطرة مساعدات عسكرية جوية وبحرية بلغت، حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول، 240 طائرة مساعدات و20 سفينة نقل ضخمة وعشرات آلاف الأطنان من الذخيرة.

وتجاوز بايدن الكونغرس في 100 صفقة سلاح أُرسلت إلى إسرائيل، كما استخدم صلاحياته الاستثنائية مرتين لتمرير مساعدات عسكرية خاصة إلى تل أبيب، وأعلن عن اتفاق على صفقة ضخمة لتزويد إسرائيل بطائرات قتالية ومروحيات.

دعم استراتيجي: أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات إلى البحر المتوسط وغواصة نووية، وعزَّزت من وجودها العسكري في المنطقة، من أجل ردع الدول التي قد تفتح حرباً من جبهات أخرى ضد إسرائيل، إذ منعت طوال فترة الحرب التصعيد في المنطقة وحصر المواجهة الأساسية مع حركة حماس في قطاع غزة، كما اعترضت صواريخ أطلقها الحوثيون من اليمن، من خلال قِطعها البحرية في البحر الأحمر وقواعدها في المنطقة.

بداية الضغط

مع طول أمد القتال والخسائر الكبيرة في الأرواح بين المدنيين والدمار الكبير في البنية التحتية، بدأت الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل من أجل الانتقال إلى المرحلة التالية من الحرب، التي يتركز فيها القتال على أهداف محددة ومنشآت عسكرية وأهداف تتعلق بالمقاومة، والدخول في صفقة تبادل لاستعادة الأسرى وإنهاء الحرب.

عدم تجاوب حكومة نتنياهو مع الدعوات الأمريكية لحماية المدنيين دفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ سلسلة مواقف عُدَّت ثوابت مقيِّدة لإسرائيل في عمليتها في قطاع غزة، وأبرزها رفض إعادة احتلال القطاع، ومنع التهجير القسري، ورفض حصار المدنيين، وصولاً إلى معارضة عملية برية في رفح قبل إخلائها.

المواقف الأمريكية تجاه المدنيين والحصار، والدفع باتجاه صفقة تُنهي أو تمهّد لإنهاء الحرب، لم تقترن بخطوات عملية ورافعة قوية للضغط على نتنياهو، بل عُدّت مواقف ذات طبيعة أخلاقية سياسية وتحفظات لا تشترط على إسرائيل وقف حربها، ما دامت المساعدات تتدفق، والمظلة الدبلوماسية الدولية على حالها.

الضغط الكلامي والتحفظات انتقلت إلى مرحلة أخرى عندما لجأت الولايات المتحدة إلى أدوات ضغط ناعمة ومعتدلة ضد أفراد من المستوطنين المتهَمين بارتكاب جرائم واعتداءات ضد الفلسطينيين، وهي خطوات توسعت وتصاعدت ضد البؤر الاستيطانية، بالتزامن مع تصريحات وانتقادات علنية ضد نتنياهو وممثلي المستوطنين المتطرفين في حكومته (إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش).

اليوم التالي للحرب

نقطة الخلاف الرئيسية بين الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية تمثلت في غياب أو تجاهل نتنياهو التطرق إلى قضية مصير قطاع غزة، وما يعرف بـ"اليوم التالي للحرب".

ترى الولايات المتحدة أن الحرب على قطاع غزة تشكل مفترق طرق ونقطة تحول تاريخية، وفّرت أرضية لإطلاق عملية سياسية تقود إلى قيام دولة فلسطينية، ودمج إسرائيل في المنطقة من خلال عملية إقليمية شاملة توحد الجبهة المناهضة لإيران.

قيام الدولة الفلسطينية تَحول إلى حجر زاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة، والأداة التي يمكن من خلالها دفع الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، إلى التطبيع مع إسرائيل، وبالتالي عزل إيران، وهو ما يعني أن قبول إسرائيل بإقامة الدولة الفلسطينية تَحول إلى شرط أساسي لتنفيذ الرؤية الأمريكية في المنطقة.

تركيبة تحالف نتنياهو الائتلافي من أحزاب اليمين المتطرف، واعتماد نتنياهو المطلق على أصواتهم للبقاء في الحكم، إضافة إلى تماهيه الآيديولوجي معهم (شركائه الطبيعيين) جعله غير قادر على التجاوب مع الرؤية الأمريكية واستراتيجيتها لـ"اليوم التالي للحرب"، لا بل إنه استخدم الضغط الأمريكي والحديث المتكرر عن حل الدولتين، أداةً لتحشيد اليمين خلفه، والتعبئة ضد هذا التوجه.

المجابهة الإسرائيلية المتكررة للسياسة الأمريكية في المنطقة التي تنطلق من تهدئة تؤسس لعملية سياسية إقليمية واسعة، حوّلت نتنياهو إلى متهم في نظر الإدارة الأمريكية، وبات يُنظر إليه على أنه ناكر للجميل، وباتت سياسته تنعكس على حملة بايدن الانتخابية، وأداةً بيد الجيل الشاب والليبراليين من الحزب الديمقراطي الذين عارضوا سياسة بايدن المنحازة كلياً لإسرائيل.

الحرب أجّلت المجابهة فقط!

تغيرات كبيرة ديمغرافية شهدها المجتمع الأمريكي تقود إلى اتخاذ سياسات أقل انحيازاً إلى إسرائيل، منها تراجع الاهتمام بإسرائيل داخل المجتمع الأمريكي، وتراجع اهتمام الشباب اليهود الذين ينتمي معظمهم إلى التيارات الليبرالية بإسرائيل، إلى جانب ازدياد عدد المسلمين في الولايات المتحدة وظهور جمعيات ومؤسسات مؤثرة في أوساطهم.

صعود حكومة اليمين التي شكَّلها نتنياهو، والإصلاحات القضائية التي كان ينوي إدخالها، والممارسات الاستيطانية على الأرض والتنكر للحل السياسي، كانت ستقود إلى مسار تصادم حتميّ بين الإدارة الأمريكية والحكومة المتطرفة التي يرأسها نتنياهو.

الحرب، وتزامنها مع الحملة الانتخابية الأمريكية، أجَّلا المواجهة الحتمية بين الإدارتين، ومن المتوقع أن لا يشهد العالم تغيراً جوهرياً في العلاقة التي ستبقى متوترة ومشدودة، قبل ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

وسواء أُعيد انتخاب بايدن أو جاء صندوق الاقتراع بترمب (الذي لا يُخفي احتقاره لنتنياهو)، من الواضح أن فكرة معاقبة إسرائيل ورهن مواصلة دعمها عسكرياً ومدّها بالسلاح بموافقتها على حل القضية الفلسطينية باتت مقبولة في الأوساط الأمريكية، وهو ما يشكل تهديداً حقيقياً للخطط بعيدة المدى التي وضعها جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه التهديدات المستقبلية لإسرائيل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً