تابعنا
ترافَع متحدثون من دول "العالم الثالث" في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان عن حق الحياة والأمن والغذاء والمأوى وحقوق النساء والأطفال؛ فيما واصلت دول غربية التستّر على سحق هذه الحقوق في قطاع غزة.

آخر ما توقّعته برلين أن تجرّها دولة من "عالم الجنوب" إلى لاهاي كي تمثُل في قفص الاتهام بتهمة دعم الإبادة الجماعية. بصرف النظر عن فرص النجاح المتاحة لهذه الدعوى، فهي تمثِّل تطوّراً غير مسبوق في شكله ومضمونه ودلالاته.

استعصى النبأ على التصديق، نيكاراغوا تجرّ ألمانيا حقّاً إلى محكمة العدل الدولية، والتهمة مغلّظة؛ هي "دعم الإبادة الجماعية". توّجت الخطوة سلسلة من التطوّرات، منها إقدام ناميبيا في بيان رئاسي يوم 13 يناير/كانون الثاني الماضي على التنديد بقرار "الجمهورية الاتحادية" مساندة حليفها الإسرائيلي في قضية الإبادة الجماعية المنظورة في المحكمة ذاتها.

ثمّ إنّ دولاً محسوبة على الجنوب العالمي خاضت خلال اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو في 21 فبراير/شباط الماضي مرافعات أخلاقية بشأن فظائع غزة في مواجهة القوى الغربية التي تدعم محتلي فلسطين.

وترافَع متحدثون من دول "العالم الثالث" في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان عن حق الحياة والأمن والغذاء والمأوى وحقوق النساء والأطفال؛ فيما واصلت دول غربية التستّر على سحق هذه الحقوق في قطاع غزة.

تحوّل في موازين القوى الأخلاقية
إنّها مؤشِّرات على تحوّلات متسارعة في موازين القوى الأخلاقية في عالم اليوم، منذ ظهور عواصم القرار الغربي في مشهد "حلف إبادة" يدعم حكومة احتلال فاشية ومجلس حرب ضالع في جرائم وحشية، فيما نأت دول أوروبية معدودة بنفسها عن هذا المسلك.

لم تدرك النخب الغربية المنجرفة خلف نتنياهو وجوقته مدى التكلفة المعنوية الباهظة التي تتكبّدها بسبب ربط مصيرها الأخلاقي بالفظائع المرئية التي يراها العالم أجمع، كان جوزيب بوريل ممثل السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، صريحاً عندما حذّر في كلمة أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من إمكانية خسارة الرصيد الأخلاقي لقارّة تتباهى بالتزاماتها المبدئية وشعاراتها القيمية.

ما قاله بوريل تحديداً أنّ أوروبا قد تفقد "سلطتها الأخلاقية" في العالم إن أظهرت مواقف متناقضة، وقصد بذلك دعم سياسات وممارسات وجرائم حرب في فلسطين والوقوف ضدّ ذلك في أوكرانيا، لكنّ بوريل ذاته لم يُظهر التزاماً عملياً بفحواه في الشهور اللاحقة، إذ انطوَت مواقفه على تناقُضات واضحة، فوظيفته أن يعبِّر خارج أروقة النقاش عن موقف أوروبي مضطرب ومتلكِّئ تتجاذبه اتجاهات الانحياز والتواطؤ والاصطفاف.

نهاية الوصاية الأخلاقية
يبدو في المحصِّلة أنّ أوروبا فرّطت في أكبر ممّا سمّاها جوزيب بوريل "سلطتها الأخلاقية"؛ فما عاد بوسعها إظهار مسلك الوصاية الأخلاقية التقليدي في ملفّات الحريات والحقوق -بما في ذلك حرية التعبير- وحتى الدفاع عن النساء والأطفال، وإن لم يدرِك كثير من النخب السياسية والثقافية في القارّة هذا التحوّل، فسلوك التواطؤ مع إبادة جماعية بشعة ومرئية يبدو صادماً ومنفِّراً لشعوب وجماهير وأوساط كبيرة ترى وتسمع وتواكِب في زمن الشاشات والشبكات.

للمواقف أثمانها المعنوية على أي حال، فلن يُمحَى من ذاكرة العالم كيف انطوَت الخطابات المسموعة من معظم المنصّات السياسية الأوروبية والغربية على تبرير واضح أو مُستَتر للإبادة الجماعية بحقّ الشعب الفلسطيني، أو على تهاوُن مع هذه الإبادة وعدم اكتراث بها.

منح هذا الموقف انطباعاً جلياً بأنّ أرواح البشر لا تتساوى في منظور عواصم "الريادة الأخلاقية"، وأنّ دماءهم لا تتكافأ في عيونها، وأنّ القيم والمبادئ تُستدعى انتقائياً بما يوافق أهواءها، ممّا رسّخ هذه الانطباعات أنّ معظم المواقف الغربية تناقضت بشكل صادم وبصفة متزامنة فيما يتعلّق بكلّ من أوكرانيا وفلسطين، على نحو نزع المصداقية عن هذه المواقف عموماً وقوّض قدرتها الإقناعية.

تجاهل أصوات الجماهير
أظهرت حرب الإبادة في غزة مدى تجاهل قادة الديمقراطيات الغربية أصوات الجماهير، فلم يكترثوا باكتظاظ الميادين على مدار شهور متواصلة بالمُطالبين بمواقف مبدئية وأخلاقية لدعم الحرية والعدالة ومناهضة حرب الإبادة.

تردّدت صيحة "وقف إطلاق النار الآن" نصف سنة تقريباً إلى أن اجترأ الاتحاد الأوروبي للمرّة الأولى على إصدار قرار خجول يوم 21 مارس/آذار 2023 يؤيِّد وقف إطلاق النار بتعبيرات فاترة.

خرج القرار الأوروبي بمشقّة بالغة وظهر في قالب لفظي غير مشفوع بأيّ إجراء عملي أو ضغط فعّال أو تلويح عقابي، فيما ما زال الجانب الإسرائيلي يحظى بامتيازات شراكة واسعة ومتعددة المستويات مع الاتحاد ودوله الأعضاء وحلفائه الغربيين.

ثمّ إنّ امتناع عديد من قادة الدول والحكومات الأوروبية والغربية عن إبداء أيِّ انتقادات، ولو بصيغة مخفّفة، لسلوك جيش الاحتلال الذي يقترف إبادة جماعية وجرائم حرب مشهودة، كشف عِلّة أخلاقية مُزمنة تنتاب السياسات الخارجية الغربية، على نحو يقدح بمصداقية شعارات حقوق الإنسان وكرامة البشر والحريات التي تحرص على إبرازها هذه الدول عادةً.

لم تُغيِّر من هذا الواقع انتقادات موجّهة لغلاة المستوطنين في الضفة الغربية، فقد بدت هذه حيلة محبوكة لإضفاء توازُن زائف على المواقف الرسمية المنحازة، ما دام جيش الاحتلال وحكومته الفاشية يحظيان بحصانة من النقد.

بلغت "الرواية المعتمَدة" في بعض البيئات الأوروبية والغربية خلال الشهور الأولى من حرب الإبادة، حدَّ التماهي مع حالة احتلال فلسطين وتمجيد جيش الاحتلال الإسرائيلي علناً في محطّات ومنصّات إعلامية وامتداح مقاتليه وحشد التأييد السياسي والإعلامي والمالي للحرب؛ مع تغييب الواقع وحقيقة القضية وخطورة الأحداث. ومّا فاقم هذه النزعة في بعض الدول الأوروبية تقديم الالتزام نحو الاحتلال وحربه على أنّه من استحقاقات ماضي اضطهاد اليهود وإبادتهم، كأنّ ذلك يبرِّر إبادة شعب فلسطين وتدمير قطاع غزة.

تجاهلت تلك العواصم الجماهير والنخب اليهودية من حولها التي تناصر غزة وتنادي بحرية فلسطين وترفع شعارات تندِّد بالإبادة الجماعية وتؤكِّد: "ليس باسمنا!".

نزعة مكارثية
من وجوه سقوط وصاية الغرب الأخلاقية على العالم في امتحان غزة تلك النزعة المكارثية التي طاردت التعبيرات المناهضة لحرب الإبادة، فقد شهد عدد من البلدان الأوروبية والغربية خلال الشهور الأولى من هذه الحرب موجة قيود على حرية التعبير فيما يخصّ نقد الاحتلال ومناهضة الأهوال الجارية في غزة، شملت في بعضها حظر التظاهر ومنع شعارات أو هتافات معيّنة تطالب بحرية فلسطين، علاوة على تقييد بعض الرموز والشارات الثقافية ذات الصلة بهذه القضية، واتِّخاذ تدابير إجرائية وقانونية في سبيل ذلك.

لم يفلح ذلك كلّه في خنق الحالة الجماهيرية التي تمدّدت واتّسع نطاقها أسبوعاً بعد أسبوع، ونجحت في كسب أوساط كبيرة من الجماهير. بالتزامن مع ذلك واجهت الحريات الأكاديمية في بعض الدول محاولات تضييق، لم تسلم منها جامعات أمريكية مرموقة عندما تدخّل كبار المانحين في الحجر على حرية النشاط الطلابي في الحرم الجامعي، علاوة على استدعاء مديري جامعات كبرى للمساءلة أمام لجنة مختصّة من الكونغرس حسب التقليد المكارثي البائد.

تجلّى الاتجاه الزجريّ بارزاً في ألمانيا، المتورِّطة أساساً في تصدير حصة هائلة نسبياً من الأسلحة والذخائر إلى الاحتلال الإسرائيلي. صعدت في "الجمهورية الاتحادية" خلال الشهور الأولى نبرة تحذير للمُنخرطين في مظاهرات التنديد بحرب الإبادة، شملت التلويح بإيقاع مخالفات والحرمان من الإقامة واللجوء والجنسية أو التهديد بالطرد من البلاد، وجرى الإعلان عن تضمين مثل ذلك في الإجراءات المتعلِّقة بمنح الجنسية.

آخر ما توقّعته برلين أن تجرّها دولة من "عالم الجنوب" إلى لاهاي كي تمْثُل في قفص الاتهام بتهمة دعم الإبادة الجماعية! بصرف النظر عن فرص النجاح المتاحة لهذه الدعوى، فهي تمثِّل تطوّراً غير مسبوق في شكله ومضمونه ودلالاته. تعبِّر نيكاراغوا في هذه الدعوى عن موقف صاعد في عالم الجنوب، وتجسِّد ألمانيا الشمال الغربي الذي ما عاد بوسعه ممارسة دور الوصاية الأخلاقية على العالم وإلقاء مواعظ بشأن الإنسانية وحقوقها وحرياتها.

إنّها غزة التي واصلت التماسك الشاقّ في مواجهة حرب الإبادة الضارية المدعومة غربياً، وامتحنت في هذا الموسم المديد مصداقية الشعارات المرفوعة والمقولات المبجّلة والمواثيق المعتمدة. لا عجب بالتالي أن تنبري نيكاراغوا لمحاكمة ألمانيا، فالجنوب العالمي يدرك لحظته ويسجِّل حضوره بمقتضى اختبار مشهود؛ له ما بعده في موازين القوى الأخلاقية في عالم متنوِّع.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً