اعترفت اليونسكو بها إرثاً إنسانياً.. تعرَّف المحظرة الموريتانية
عرفت موريتانيا المحظرة منذ قرون ، وأدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، خلال اجتماعها في دورتها الثامنة عشرة في ديسمبر/كانون الأول 2023.
لسنوات حافظت المحظرة على تقاليدها في تدريس العلوم الشرعية واللغة العربية / صورة: TRT عربي (TRT عربي)

ينكبّ الطالب "المَحْظريّ" الموريتاني الحسين إسلمُ أحمادو على دراسة مختصر خليل في الفقه المالكي في محظرة الشيخ بداه ولد البصيري، وهي واحدة من أعرق محاظر العاصمة الموريتانية نواكشوط.

يرمي الشاب إلى مواصلة مسار التحصيل العلمي الذي بدأه منذ سنوات، وقد تحدث بكثير من الاعتزاز، على هامش يوم من أيام كدحه المعرفي الطويل، قائلاً إنّ من أسباب توجهه إلى المحظرة انتماؤه إلى وسط كانت فيه مركزية.

ويقول: "كانت قصص التحصيل العلمي لأجدادي في المحظرة ملهمة، وهو دأب أسرتي منذ القِدم، لذلك توجهت إلى أخذ العلم في المحظرة والعيش فيها، وأدرس بالطريقة التقليدية".

ويبيّن الحسين في حديثه مع TRT عربي أن يومه يبدأ بكتابة النص الذي يريد دراسته بخطّ اليد، ثم يقرؤه ويذهب به إلى الشيخ ليشرحه له.

تقاليد قرون

لا تختلف قصة الطالب المحظري عبد الله أحمد سالم عن حكاية زميله الحسين، الذي يدرس معه في المحظرة نفسها، التي أسّسها منذ عقودٍ العالم الموريتاني الشهير الراحل الشيخ بداه ولد البصيري في مقاطعة لكصر في العاصمة نواكشوط.

ويقول أحمد سالم: "أسير على خطى أهلي، فأنا نتاج لزواج حصل في المحظرة التقليدية، فوالدي تزوج أمي وهو لا يزال طالباً محظرياً".

ويضيف لـTRT عربي: "أعرف قيمة العلم، واليوم أدرس كتاب الكفاف، وسبق وأُجزت في القرآن، وبعد ذلك درست مجموعة من الكتب المقررة في المحظرة، مثل الآجرومية وشرح الشيخ ابن عاشور والأخضري وأسهل المسالك وقرة الأبصار، ويبدأ يومي المحظري بالاستيقاظ باكراً لأراجع بعضاً من القرآن الذي أحفظه عن ظهر قلب، ثم أحفظ النص الذي أدرس حالياً، وبعدها أذهب وأناقشه مع الطلاب".

أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) المحظرة ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية (TRT عربي)

يتميّز الحسين وعبد الله وغيرهما من طلاب محظرة بداه بالتنوع والقدوم من مختلف جهات موريتانيا، ويتشكّلون من إثنيات وطبقات اجتماعية مختلفة، لكنهم يخضعون لنظام العيش نفسه يومياً داخل المحظرة، من دراسة وطبخ وتنظيف وغير ذلك.

كما يخضعون في رحلتهم للظفر بالمعرفة لأسلوب التدريس المتبع في المحظرة الموريتانية التقليدية.

ويوضح المشرف على المحظرة الشيخ أحمد سالم ولد أحمد ولد العالم قائلاً إن "هناك نظْماً متداولاً منذ زمن طويل يلخص المنهج المتبع في التدريس في المحظرة الموريتانية.

ويضيف أن النظم "كتب إجازة وحفظ الرسمِ… قراءة، تدريس أخذ العلمِ"، أي إن "الطالب يكتب الدرس ويجيزه على شيخه حتى لا يكون فيه خطأ، ثم يحفظه وبعدها يقرؤه ثم يراجعه"، وفق المتحدث.

والمحظرة هي مدرسة تقليدية يدرُس فيها القرآن وعلومه، فضلاً عن العلوم الشرعية واللغة العربية.

وقد عرفتها موريتانيا منذ قرون نمطاً تعليمياً مميزاً، وأدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، خلال اجتماع اللجنة الحكومية الدولية لليونسكو في دورتها الثامنة عشرة بجمهورية بوتسوانا في ديسمبر/كانون الأول 2023.

ماذا يعنى احتفاء اليونسكو بالمحظرة؟

أحدث احتفاء اليونسكو بالمحظرة الموريتانية فرحاً بين النخب في موريتانيا التي تقدمت بملف ترشيح إلى منظمة اليونسكو لاعتمادها تراثاً موريتانياً خالصاً، ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.

ويقول الأستاذ الجامعي الدكتور الشيخ سيدي عبد الله عن الحدث إن "المحظرة الموريتانية هي أمّ الثقافة الشنقيطية، أي الثقافة التراثية الموريتانية، التي يباهي بها أهل موريتانيا. هذه الثقافة المحظرية هي ثقافة المدن الموريتانية القديمة، وهي ثقافة القلم واللوح والشعر والأدب والقرآن وتفسيره والفقه، فكل هذه الثقافة هي نتاج المحظرة الشنقيطية".

ويرى في حديثه مع TRT عربي أنه "كان ينبغي أن يكون الاعتراف بالمحظرة منذ زمن، فقيمة المدن الموريتانية -التي اعترفت بها اليونسكو سابقاً- تستمد أهميتها من المحظرة والثقافة المحظرية".

مدرسة الهوية

للمحظرة أثر واضح في عالم المعرفة في موريتانيا، وتُعَدّ "جامعة الصحراء" كما تلقّب، حالة فريدة تميز بها المجتمع الموريتاني البدوي المترحّل.

ويرى الأستاذ الجامعي الدكتور المختار ولد أحمد السالم أنّه "لولا المحظرة لم يكن لموريتانيا وجود، فهي التي حافظت على موريتانيا ألف عام على الأقل، وجعلتها كياناً محافظاً على وحدته وخصائصه ودينه وتراثه وثقافته".

ويضيف لـTRT عربي أنه "لولاها لابتلعتها الدول الأخرى أو الاستعمار لأن البيئة الجغرافية صعبة، فلولا المحظرة لهاجرت هذه الأجيال إلى مناطق أكثر ملاءمة للحياة، لكن تشبث الموريتانيين بالمحظرة هو الذي جعلهم كياناً موجوداً عبر هذه القرون الطويلة المستمرة".

ويؤكّد ولد أحمد السالم أن "تأثير المحظرة تجسّد داخلياً في تماسك المجتمع وتمسّكه بدينه وبالعلم الشرعي. وتمثل خارجياً في تشكيل المدرسة سفارة مباركة إلى بلدان العالم كله جيراناً وغير جيران، وقد كانت المحظرة الموريتانية خير ممثل لهذا المجتمع، وبها عُرف وذاع صيته وعُرف بالعلم".

ويضيف أنها كانت عائقاً أمام ترسخ الاستعمار وثباته، وكانت عائقاً أمام اندلاع مزيد من الاقتتال المحلي، فكانت لها نتائج اجتماعية وأخرى دينية، ونتائج داخلية وخارجية.

ويقول الدكتور الشيخ سيدي عبد الله إن موريتانيا بوصفها دولة حديثة عمرها قصير، لكن الثقافة الموريتانية ليست جديدة، فهي نتاج هذه المحظرة.

ويضيف لـTRT عربي أنها "الجامعة التي عرفها الموريتانيون قبل أن يعرفوا المدارس النظامية وقبل أن يعرفوا جامعة نواكشوط التي أُنشئت في الثمانينيات، فتاريخ المحظرة يؤرخ له منذ قدوم المرابطين (القرن الحادي عشر الميلادي)، ولكنها ازدهرت في العصور اللاحقة، وأصبحت سمة للإنسان الموريتاني".

ويبيّن أن النظام المعرفي فريد يتسم بأسلوب في التدريس وفي العيش، وبأسلوب في التعاطي بين المعلم وتلميذه، وهي محك الثقافة الموريتانية ككلّ، إذ لم يكن هناك مجال معرفي إلا ويعرض على المحظرة لمعرفة مدى موافقته النظام العلمي الذي يبني عليه الموريتانيون شخصيتهم أم لا.

ويشير الشيخ سيدي عبد الله إلى أنّ "نظام المحظرة القائم على تشعّب المعارف، وعلى أن الشخص يدرس اختصاصات على شيخ واحد أو شيخين وفي وقت واحد ويعيش بعيداً عن ذويه، ويقتات في عيشه على الكفاف".

ويشيد بنظام الحفظ عن ظهر قلب الذي يتّبع في المحظرة الذي يردّه إلى أن الناس "كانوا يقيمون في مناطق نائية يندر فيها الورق واستخدامه، لذلك كان لزاماً عليهم الاعتماد على ذاكرتهم، فرسَّخوا خاصية الحفظ لدى الطلاب والتلاميذ".

ويلفت إلى أن المحظرة لها دور أيضاً في علاقات البلاد الدبلوماسية اليوم، "على الأقل في الدبلوماسية الناعمة"، إذ إن العلماء من خريجي المحاظر لهم حضور في عديد من الدول العربية والإسلامية ويعتبرون سفراء لموريتانيا.

ما واقع المحظرة اليوم؟

تواجه المحظرة اليوم تحديات جمة، وهو ما يطرح التساؤلات حول إمكانية استمرار هذا النمط من التعليم وجدواه على الدولة والمجتمع.

وفعلاً هناك محاولات لتطوير طريقة التدريس وتحسين البنية التحتية لهذه المدارس.

وحسب الدكتور المختار فإن "المحظرة تنقصها أمور عديدة، أوّلها اعتراف الدولة، والاعتراف بالعلماء (من خريجيها) في مصافّ حمَلة الشهادات".

ويشير إلى أن المدارس التقليدية تحتاج إلى إدخال بعض التنظيم الإداري لها، "فيجب أن تكون هناك أوقات دوام محددة، وإدارة ضابطة وملزمة، وأوقات دوام معينة".

ويؤكد ضرورة توفير الدعم المادي لها، إذ "تعتمد المحاظر على أهل العالِم أو حيه أو أقاربه مادياً. لا بد أن تكون هناك موارد للمحاظر من أوقاف ورواتب تأتي من الدولة، توفر الرواتب والمساكن، بدلاً من أن تُترك للهبات".

ويلفت الدكتور المختار إلى أن المحظرة تحتاج إلى "إدخال بعض المواد الحديثة مثل الخطابة ومناهج البحث وطرق التدريس وبعض مسائل التربية وعلم النفس".

بدوره يرى الشيخ سيدي عبد الله أنه "يمكن للمحظرة أن تستفيد من التطور التكنولوجي، لكن أيضاً لا ينبغي أن نقضي على نظام المحظرة ولا على أسلوبها، فهو جزء من قيمتها".

ويحذّر من تطويرها على حساب نظامها الأصلي، إذ "لا ينبغي أن تتحول إلى مدرسة معاصرة بجدران إسمنتية ومقاعد وطاولات، وإن كان في المحظرة تجديد فيكون في المناهج، وتكييف بعض المواد العلمية في المحظرة مع العصر، حتى يتمكن طلابها من منافسة خريجي المدارس النظامية في فرص العمل".

ويشدد على أهمية "أن تدعم الدولة فكرة أنه لا ينبغي أن تذوب المحظرة بثقافتها وفضائها في المعاصَرة لدرجة تختفي معها تلك الطريقة التي عُرفت عن المحظرة".

ويوضح أنه "توجد سياسات قامت بها الدولة في هذا المجال، فسبب اعتماد باكالوريا الآداب الأصيلة هو إعطاء فرصة لطلاب المحاظر للمشاركة في امتحانات الباكالوريا، وبالتالي دخول الجامعات، ويمكن تطوير ذلك الأمر مع المحافظة على المحظرة وأسلوبها".

TRT عربي