مع الحجر الصحي الذي فُرِض في كثيرٍ من بلدان العالم لمحاصرة جائحة كورونا، يطرح الجميع السؤال نفسه: "ماذا سأفعلُ بكلّ هذا الوقت الذي أقضيه وحيداً في البيت؟".
بل إنّ كثيرين مِمّن لهم ميولاتٌ أدبية وفنّية يشعرون بالعجز عن الكتابة وعن القراءة وعن الرّسم وعن الإبداع، في غيابِ رؤيا واضحة عن المستقبل الذي ستنتهي به هذه الأزمة، وتعود الحياة إلى ما كانت عليه من قبل.
لكنّ العزلة التي يفرضها الحجر الصحي اليوم ليست سيئةً إلى ذلك الحدّ، بل ربّما تكون فرصةً للإبداع بعيداً عن ضجيج العالم، بخاصّة أنها قدّمت سابقاً روائع أدبية وفنّية للعالم، وأنّ الإبداع رديف الوحدة والانعزال.
كتّاب كثر، وأدباء وفلاسفة آثروا الوحدة من أجل البقاء وجهاً لوجه أمام بناتِ أفكارهم، وآخرون عايشوا الأوبئة والطواعين وفُرِض عليهم الحجر الصحي، لكنّهم لم يستسلموا وأخرجوا للعالم كتباً وإبداعاتٍ عالمية. أعمالٌ تبيّن أنّ الإبداع يستطيع أن يبقى لصيقَ الإنسان حتى في أحلك أيّام الوحدة والعزلة والموت.
فرجينيا وولف.. غرفةٌ تخصّ المرء وحده
من لا يعرف "غرفة فرجينيا وولف"، هذه الكاتبة التي أسست للكتابة النسوية، وكانت واحدة من أهمّ الكاتبات في العالم اللواتي طرحن أسئلةً ورؤى تتعلّق بالنساء والإبداع؟
"غرفةٌ تخصّ المرء وحده".. كِتابُ وولف الذي اعتبره كثيرون "مانيفستو الكتابة النسوية"، يحمِل في تعبيرٍ صريح معاني العزلة والوحدة كطريقٍ أساسيّ للإبداع. وإذا كانت الكاتبة البريطانية قد اعتبرت في وقتٍ سابق أنّ الاستقلالية الاقتصادية واحدة من مقوّمات الكتابة الإبداعية عند المرأة، فإنّ امتلاكَ غرفةٍ خاصّة شرطٌ أساسي لهذا الإبداع. أن يُغلق الإنسان باب غرفته الخاصّة، ويبقى وحيداً مع أفكاره وكلِماته، بعيداً عن ضجيج العالم.
تقول في نهاية الكِتاب نفسِه: "إذا أرادت المرأة أن تكتب الأدب، فيجب أن تكون لها غرفة تخصّها وبعض المال".
فيكتور هوغو.. العزلة هرباً من بطش السلطة
عُرِف الكاتب الفرنسي بمواقفه السياسية الجريئة والتي تمظهرت بشكلٍ جليّ في أعماله الروائية والشعرية، وإن كانت هذه الأخيرة تحمل طابعاً اجتماعياً ورومانسياً، لكنّها انتقدت السلطة وحكم نابوليون الثالث آنذاك، ممّا جعل الكاتب عُرضةً للبطش والتهديد، فاختار أن يبتعد ويتنقّل بين المنافي بحثاً عن الأمان طيلةَ أكثر من عشرين عاماً.
لكنّ فترة المنفى الطافحة بالاغتراب والعزلة لم تكن بالنسبة إلى هوغو سوى فرصةٍ للانكباب على الكتابة والإنتاج الغزير، فأبدَع رائعته "البؤساء" التي كانت تأريخاً لفرنسا بعد الثورة (1789ـ1799)، وتحوّلت إلى واحد من أهمّ الأعمال الأدبية في أوروبا والعالم.
فريدا كالو.. وجهاً لوجه مع الوجع
عام 1925، تعرّضت فريدا كالو لحادث باص كان يقلّها إلى منزلها، واضطرّت معه إلى البقاء مستلقيةً على ظهرها لمدّةِ سنةٍ كاملة.
وطيلة هذه السّنة، كانت الفنّانة التشكيلية معزولةً وحدها في الغرفة تُحدّق في نفسِها في مرآةٍ معلّقةٍ في السّقف. كانت تلك البذرة الأولى لإبداعها الذي وصَل إلى العالمية.
في انعكاس وجهها في المرآة، رأت فريدا كلّ آلامها وأوجاعها وقلقها، فطلبت ريشةً وألواناً وأوراقاً، ثمّ بدأت في رسمِ هذا الألم الذي تمثّل في لوحاتٍ كثيرة، منها: "الغزالة المجروحة"، "شجرة الأمل"، "جذور" و"التفكير في الموت".
شكسبير.. الطاعون والموتُ صوراً للحبّ
عندما ضرب الطاعون مدينة لندن عام 1592، وأُغلِقت المسارح، لم يستسلم الكاتب المسرحي الأشهر في العالم ويليام شكسبير، وانكبّ على كتابة المسرحيات بالإضافة إلى الشعر خلال فترة الحجر، ليُخرج للعالم أفضل أعماله مثل "كوميديا الأخطاء" و"ترويض الشرسة" و"خاب سعي العشاق" وغيرها.
وقد أتاح انتشار الوباء لشكسبير فرصةً لاستعمال صورٍ شعريةٍ عديدة ما كان ليراها لولا الطاعون، فالموتُ والخوف والتقرّحات على أجسادِ المصابين تظهرُ جلياً في كثيرٍ من أعماله مثلَ "فينوس وأدونيس"، "أنطونيو وكليوباترا" و"ماكبث".
لم يتوقّف تأثير الطاعون في أعمال شكسبير على الصور الشعرية، بل ألهم الكثير من قصص مسرحياته أيضاً، وبخاصّة مسرحيته الأشهر "روميو وجولييت" التي ذُكِر فيها "الطاعون" و"الحجر الصحي" وتنزّ منها رائحةُ الموت.
يُذكَر أنّ الوباء الذي ضرب لندن في أواخر القرن السادس عشر قتلَ أشقّاء شكسبير الأكبر منه سنّاً، بالإضافة إلى ابنه الوحيد هاملت.
أورهان باموك.. العزلةُ شرطٌ للإبداع
في الكلمة التي ألقاها أورهان باموك أمام لجنة جائزة نوبل عام 2006، تطرّق الكاتب التركي إلى مسألةٍ هامّة في حياة كلّ كاتب يريد أن يعطي شيئاً جديداً للعالم، وهي العزلة.
يقول باموك إنّ التعفّف عن نداء العالم القويّ: الحياة والأصدقاء والنساء والتلفزيون والسينما، واللجوء بدل ذلك إلى حياة العزلة هو الشرطُ الأول لأيّ كاتب يريد أن يُبدِع، فمن دون عزلِ الذات والانكباب على العمل بدأب وباستمرار لا يمكن إنجاز شيءٍ حقيقيّ.
وعندما نتحدّث عن باموك، لا يمكننا إلّا أن نتذكّر الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي ألهمه في حياته الأدبية. بروست الذي عزَل نفسه في غرفةٍ مبطّنة بالفلين العازل حتى لا يسمع أيّ ضجيج قادمٍ من العالم الخارجي وهو يكتب رائعته "البحثُ عن الزمن الضائع".
كافكا.. هل هذه حياةٌ ممكنة؟
عاش الكاتب التشيكي فرانز كافكا حياتَه القصيرة معزولاً عن العالم. يستيقظُ عند الثامنة صباحاً، يتناول شيئاً ما بسرعة، يتنزّه قليلاً، ثم يبدأ في الكتابة حتى الليل.
"هل ستتحمّلين كلّ هذا؟ من الرجل الذي لن تعرفي عنه سوى أنه يجلس في غرفته ويكتب؟ ويقضي الخريف والشتاء على هذا المنوال؟ هل هذه حياةٌ ممكنة؟" يتساءل كافكا في رسالته إلى حبيبته فيليس باور.
لم يكن كافكا ليصل إلى ذلك العمقٍ في الفكر لولا العزلة، ولم يكن ليحصل على الإلهام ليكتب روايته الرائعة "المسخ" لولا العزلة. لقد وضعته العزلة وجهاً لوجه أمام تفاهة العالم أحياناً، ووحشيته أحياناً أخرى، وعبثيته في بعض الأحايين، وجعلت منه مبدعاً لم يكرّره العالم.
أبو حامد الغزالي.. الانعزال للتأمّل في الذات والوجود
قضى الفيلسوف والعالم المسلم أبو حامد الغزالي حياته منعزلاً، ومنحَ العالم تجربةً ملهمة في الاعتزال. كانت العزلة بالنسبة له فرصةً للتأمّل في الذات والحياة والوجود. فعبَر الفيافي وحيداً، هائماً على وجهه، باحثاً عن معنى الوجود، وعن الخلاص من الفِتن والشرور.
وبفضلِ العزلة، أخرج الغزالي موسوعته الضخمة "إحياء علوم الدين" التي حازت شهرةً وانتشاراً واسعَين، وأصبحت نُسَخه متوفّرة في كلّ مكتبات العالم.