منذ اشتعال الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية، يعاني الرأي العام الأمريكي فجوة في الآراء بين الأمريكيين الأكبر سناً المؤيدين لإسرائيل، والأصغر سناً المؤيدين لفلسطين بقوة.
وكشف استطلاع جديد للرأي أن الناخبين لا يوافقون على الطريقة التي يتعامل بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، مع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وأظهر الاستطلاع الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع كلية سيينا، أن الأمريكيين الأصغر سناً، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، وهم تقليدياً من الفئة الديمغرافية ذات الأغلبية الديمقراطية، أكثر انتقاداً بكثير من الناخبين الأكبر سناً لسلوك إسرائيل ورد فعل الإدارة الأمريكية على الحرب الإسرائيلية.
ينتمي أغلب هؤلاء إلى ما يُعرف بـ"جيل Z"، مواليد منتصف التسعينيات حتى 2010، ويظهر معظم أبناء هذا الجيل أنه أقل تعاطفاً مع إسرائيل من الجيل السابق، إذ قادت الجامعات الأمريكية التظاهرات المؤيدة لفلسطين بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة هارفارد وهاريس، يعتقد 60% أن هجوم حماس يمكن تبريره بمظالم الفلسطينيين، كما تعتقد نفس النسبة أن إسرائيل هي التي ترتكب إبادة جماعية ضد سكان غزة.
وكشف الاستطلاع، الذي ظهرت نتائجه منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن غالبية الشباب الأمريكيين لا يؤيدون حل الدولتين، وهو الحل الذي يفضله الأمريكيون الأكبر سناً، كما يريد أكثر من نصف المشاركين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً إنهاء إسرائيل ومنحها لحماس والفلسطينيين، فيما يفضل 32% حل الدولتين.
ويرى خبراء ومحللون تحدثوا مع TRT عربي أن كثيراً من العوامل أسهمت في مناهضة "جيل Z" لإسرائيل، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وتغيير السردية المحيطة بفلسطين ووحشية الهجوم الإسرائيلي بقيادة اليمين المتطرف.
كيف تحول التضامن من إسرائيل إلى فلسطين؟
بعد وقت قصير من العملية التي أطلقتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينيبياك، أن الديمقراطيين، بمن فيهم الشباب، يتعاطفون مع الإسرائيليين أكثر بنسبة 48% مقابل 22% مع الفلسطينيين، ورغم ذلك فإن 51% من الناخبين تحت سن 35 عاماً يرفضون إرسال أسلحة ومعدات عسكرية إلى إسرائيل رداً على هجوم حماس.
وبعد شهر واحد من القصف الإسرائيلي الانتقامي، كشف استطلاع آخر أجرته الجامعة نفسها، أن الديمقراطيين يتعاطفون بشكل أكبر مع الفلسطينيين بنسبة 41% مقابل 34%.
ومثل انقلاب النسب السابقة، انقلبت الفتاة الأمريكية، آشا أسيون، من التعاطف مع إسرائيل إثر هجمات حماس إلى دعم فلسطين بعد أقل من شهر واحد من بداية الحرب، مبينةً أنها لم تكن تعرف شيئاً عن الصراع العربي-الإسرائيلي من قبل.
وفي حديثها مع TRT عربي، تقول آشا، وهي طالبة في المرحلة الثانوية تبلغ 16 عاماً، إنه "في بداية الأمر، شعرت بأن ما فعلته حماس أمر سيئ، ومن حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، ثم بعد ذلك شاهدت الفيديوهات والصور على إنستغرام وتيك توك، وشاهدت كيف تقتل إسرائيل نحو 20 ألف إنسان بريء معظمهم أطفال، وتقصف المستشفيات وتُهجِّر العائلات من منازلها، فبدا الأمر جنونياً وأقرب للإبادة الجماعية ويجب أن يتوقف على الفور".
ويعتقد أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بوسطن، توماس والين، أن "هناك تعاطفاً غامراً مع الشعب الفلسطيني الذي يعاني ظلماً بسبب (خطايا حماس)، فضلاً عن الهجوم العسكري الذي ينفّذه به جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة ويستخدم فيه القصف العشوائي للمدنيين بوصفه استراتيجية أساسية".
ويقول والين لـTRT عربي، إن "الشباب يرى السخرية الواضحة في هذا النهج، فضلاً عن التورط الحكومي الأمريكي في تمكين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأنصاره المتطرفين في تنفيذه، وهو ما يجعلهم أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين".
بدوره، يلفت المؤرخ في جامعة ميشيغان، ديريك أيد، إلى أن تعاطف الشباب الأمريكي مع الفلسطينيين ليس ظاهرة جديدة تماماً، معتبراً أن "ما يحدث حالياً موجة ثانية لما حدث في 2014، وكلاهما امتداد لسوابق تاريخية شهدتها الولايات المتحدة أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات خصوصاً بين أبناء تيار (اليسار الجديد)".
ويبيّن أيد في حديثه مع TRT عربي، أن تشكيلين معروفين داخل "اليسار الأسود"، ويقصد بها التيارات اليسارية في أوساط الأمريكان ذوي الأصول الإفريقية التي انتشرت في الستينيات من القرن الماضي، ومن بينها لجنة التنسيق الطلابية اللا عنفية وحزب الفهود السود، كانا من المدافعين الصاخبين عن القضية الفلسطينية بعد عام 1967، وكذلك منظمات إقليمية ومحلية مثل رابطة العمال السود الثوريين.
ويرى أيد أن "هذا التضامن كان متجذراً في فكرة أن الأمريكيين السود شاركوا في صراع مشترك مع الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب المستعمرة ضد العدو الرئيسي؛ الإمبريالية الأمريكية وأتباعها في جميع أنحاء العالم، وإسرائيل في المقام الأول بينهم".
ويؤكد أيد أن هذه المنظمات كانت تمثل "شباب" تلك الحقبة، كما تأثر الشباب السود في ذلك الوقت بنضالات أخرى، بما في ذلك حركة "أمة الإسلام" للأمريكيين السود التي تأسست عام 1930 وكانت تعزز الوحدة العرقية، وتأثروا أيضاً بمالكولم إكس، والمناضل الأسود روبرت ف. ويليامز الذي دعم فلسطين في كل مناسبة، كما تأثر السود في أمريكا بالمنظمات والأفراد الذين عبّروا عن دعمهم لفلسطين بشكل واضح حتى قبل عام 1967.
"جيل Z" بين الإعلام التقليدي ووسائل التواصل
برزت منصتا تيك توك وإنستغرام بقوة خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، سواء في لقطات الفيديو القصيرة أو القصص أو الوسوم، وحصد وسم (#freepalestine) على تيك توك -حيث غالبية المستخدمين من الشباب والمراهقين- 31 مليار مشاركة مقارنةً بـ590 مليون مشاركة لوسم (#standwithisrael)، الأمر الذي استند إليه نواب جمهوريون في الكونغرس ليطالبوا بفرض حظر على تيك توك، معتبرين أن تباين الأرقام دليل على أن التطبيق يُستخدم لتعزيز الدعاية وغسل أدمغة الشباب الأمريكيين.
وخلال الحرب المستمرة على قطاع غزة، توجّه بعض وسائل الإعلام الغربية إلى الانحياز إلى الرواية الإسرائيلي في تهويل قصص من الجانب الإسرائيلي على حساب الجانب الفلسطيني، وهو ما حاول بعض المنصات الموجودة على وسائل التواصل الاجتماعي دحضه وخلق التوازن في نقل ما يحصل فعلاً من مجازر وتدمير.
وعلى عكس آشا، تتابع أوليفيا القنوات الإخبارية التقليدية، وفي حين تعرفت آشا على القضية الفلسطينية من خلال تيك توك وإنستغرام بشكل أساسي، كانت شبكة CNN مصدر الأخبار والمعلومات لأوليفيا.
أوليفيا، وهي طالبة في المرحلة الثانوية وتبلغ 15 عاماً، تقول لـTRT عربي، إن "حماس جماعة إرهابية هاجمت مواطنين إسرائيليين، وكان من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، لكنها تمادت قليلاً، وأعلم أنه من المنطقي أن يموت بعض الأبرياء في الحروب".
الفارق بين ما تمثله آشا وأوليفيا، يُرجعه أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة ويلفريد لوريير، سيمون دالبي، إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل وعي الشباب وخلق حالة التعاطف الكبيرة بين الشباب الأمريكيين، بوصفهم المستخدم الأكبر لمنصات تيك توك وإنستغرام.
ويقول دالبي لـTRT عربي، إن "جزءاً من التعاطف المتصاعد مع الفلسطينيين يعود إلى التدفق اللا نهائي لمقاطع فيديو وصور معاناة الناس في غزة"، مضيفاً أنه "من الصعب جداً رؤية ما يحدث هناك ودعم الروايات الرسمية التي تقول إن ذلك له علاقة كبيرة بالدفاع عن إسرائيل؛ فتدمير المستشفيات والمنازل والجامعات، فضلاً عن قتل الأطفال، يبدو غير متناسب على الإطلاق، وبالتالي فإن المفاهيم الجوهرية للعدالة والتعاطف تُشكِّل بشكل متزايد الروايات الشعبية".
من جانبه، يرى أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بوسطن، توماس والين، أن "وسائل التواصل الاجتماعي تدفع الشباب إلى التضامن على المستوى الدولي، خصوصاً أن معظم الشباب يستقي المعلومات الإخبارية من وسائل التواصل الاجتماعي".
ويلفت والين إلى أن "الجرائم ضدّ الإنسانية هناك واضحة جداً والحاجة إلى معالجتها ضرورية للغاية"، في إشارة إلى ما يحدث في قطاع غزة.
حياة السود والفلسطينيين مهمة
قبل ثلاث سنوات اجتاحت التظاهرات مختلف الولايات الأمريكية، وكان "الجيل Z" يقود تلك التظاهرات رافعين شعار "حياة السود مهمة".
وشاركت الطالبة آشا في تلك التظاهرات، قبل أن تُتم العام الـ14 من عمرها، وتقول إن "الأمر لا يختلف كثيراً؛ ما يحدث للسود في أمريكا هو ما يحدث للفلسطينيين اليوم".
تُرجع آشا الفضل أيضاً لمعرفتها ما يدور في قطاع غزة إلى صديقاتها الفلسطينيات، مردفةً: "لدي أكثر من صديقة فلسطينية، يشعرن بالقلق على عائلاتهن في فلسطين. نتناقش معاً، وينشرن عن عائلاتهن على وسائل التواصل الاجتماعي"، كما تشارك آشا صديقاتها في نشر الفيديوهات والصور الداعمة للفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي كما فعلت من قبل لدعم حركة "حياة السود مهمة".
ويربط أيد بين الفلسطينيين والسود في أمريكا، ويذكر الجذور التاريخية للتضامن بينهم التي تبلورت عام 2014 بعد مقتل الشاب مايكل براون على يد شرطة فيرجسون في ولاية ميزوري، حينها أصدرت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بياناً تدعم فيه كفاح السود ضد العنصرية في الولايات المتحدة.
ويبيّن المؤرخ في جامعة ميشيغان أنه "في الوقت الذي قُتل فيه مايكل براون، كانت إسرائيل تقصف غزة، ومع تزامن الحدثين في كل من فيرجسون وغزة، رأى جيل جديد من الأمريكيين السود صورة نضالهم معكوسة في نضال الفلسطينيين".
ويضيف أيد أنه حدثت مقاربات حينها بين ممارسات إسرائيل وممارسات الشرطة الأمريكية، وصلت إلى حد رصد استخدام نفس الغاز المسيل للدموع في فيرجسون وفلسطين معاً.
ويلفت إلى أنه قبل تلك الأحداث، وما تبعها من تصاعد الأصوات الداعمة للفلسطينيين، كان الطلاب الفلسطينيون والعرب يعيدون تشكيل خطاب داعم لفلسطين في الحرم الجامعي، وكان وعي جيل جديد يتشكل من مصادر معلومات خارج وسائل الإعلام التقليدية، "اجتمعت هذه العوامل الثلاثة لتشكل تضامناً متجدداً لم نشهده منذ أوائل السبعينيات"، حسب أيد.
بايدن يخسر الشباب
كان الشباب أكثر فئات الناخبين دعماً لبايدن في انتخابات 2020، لكن يبدو أن هذا الدعم قد تآكل لعوامل عدّة ترتبط بالدعم المتشدد للحرب الإسرائيلية، إذ عّبر الناخبون الشباب عن عدم رضاهم عن موقف بايدن من الحرب في غزة، وعدم مطالبته إسرائيل بوقف إطلاق النار.
كما أن هناك مخاوف رئيسية بين الشباب فيما يتعلق بالسياسات الحكومية، أبرزها العامل الاقتصادي، وفي هذا السياق يفسر المؤرخ ديريك أيد، أن "الشباب الأمريكيون يعيشون حياة أسوأ من أجيال كثيرة سبقتهم، وبدأ الكثير من الأمريكيين يشككون في آلة الحرب الأمريكية، خصوصاً بعد غزو العراق وأفغانستان، وكجزء من هذا التساؤل، فُتح مبلغ الـ4 مليارات دولار الممنوحة لإسرائيل كل عام كنقطة انتقاد بين كثير من الشباب".
ويتفق أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بوسطن توماس والين مع أيد في أن ما يُقلق كثيراً من الشباب الأمريكي هو "إلى أي مدى تستطيع إدارة بايدن أن تدعم نتنياهو واليمين المتطرف الذي ينتهك بشكل صارخ القواعد المقبولة للسلوك المتحضر؟".
ويؤكد والين أن "هناك قلقاً حقيقياً أيضاً من أن هذا قد يؤدي إلى حرب إقليمية أوسع في الشرق الأوسط يمكن أن تجذب الولايات المتحدة مباشرةً إلى القوى الكبرى مثل روسيا، وسيكون ذلك كارثياً على الجميع".
جيل يرفض الحرب
وترفض شريحة من الشباب في إسرائيل أداء الخدمة العسكرية الإلزامية رفضاً للقتل والمجازر، وبرز صوت هذه الفئة خلال الحرب الحالية، إذ سبق أن رفض شاب إسرائيلي يبلغ من العمر 18 عاماً، أمر التجنيد. وقال تال ميتنيك، إنه "لن يكون جزءاً من دورة العنف".
وحسب النظم الإسرائيلية، فإن مدة الخدمة العسكرية الإلزامية هي 32 شهراً للذكور فوق سن 18 عاماً، و24 شهراً للنساء، وأي شخص يرفض ذلك قد يواجه السجن لمدة تصل إلى 200 يوم، إلى جانب ضغوط اجتماعية.
ميتنيك الذي جرى إرساله إلى السجن العسكري، واحد من كثيرين في "جيل Z" يرفضون الخدمة العسكرية بشكل كبير، ففي الولايات المتحدة انخفض عدد الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و21 عاماً، الذين يفكرون في التجنيد في عام 2022 إلى 9% وهو انخفاض لافت عن السنوات السابقة.
وبشكل عام فإن "جيل Z" لا يحبّذ استخدام القوة العسكرية، وتقول أوليفيا: "رغم اعتقادي أن إسرائيل لديها الدافع، لكن أنا لا أريد العنف والدمار، أنا ضد الحروب وأؤيد السلام، لا أعرف كثيراً عن تاريخ فلسطين وإسرائيل، لكن إذا كان هناك أي شيء غير العنف يحل النزاع فأنا أؤيده".