"حكيم الأمة" الشاعر محمد إقبال.. هل ألهمت شكواه المسلمين؟
بصفته شاعراً ومفكراً وفيلسوفاً، سعى محمد إقبال إلى النهوض بالعالم المسلم من سباته الطويل. ورغم تجاهل أعماله خلال العقود الأخيرة، فإنّه يُواصل إلهام وتحريك الكتّاب حول العالم.
الشاعر والفيلسوف محمد إقبال (Others)

ففي عام 1913 وقف محمد إقبال (36 عاماً حينها) أمام حشدٍ ضخم قرب بوابة موشي في لاهور بباكستان، وقرأ عليهم قصيدةً مؤثرةً لدرجة أنّ عيون الحاضرين امتلأت بالدموع من شدة تأثرهم بالقصيدة.

وكانت قصيدة "جواب الشكوى" هي القصيدة الثانية من حديث الروح. والقصيدة الأولى هي "الشكوى" التي كُتِبَت عام 1909، واعتبره البعض بسبب "الشكوى" من غير المؤمنين، بينما احتفى به آخرون باعتباره عبقرياً.

وكانت الوقفة السياسية التي أُقيمت عام 1913 جزءاً من سلسلة القصائد والخطابات التي ألقاها إقبال وغيره من الشخصيات الهندية بغرض جمع الأموال للضعفاء والإمبراطورية العثمانية المتداعية. إذ أراد إقبال تقديم بعض الإرشاد والإجابات، لوعيه بالأوقات العصيبة التي تنتظر البلاد وآلام وارتباك المسلمين من حوله.

وكان هذا هو موضوع "الشكوى" و"جواب الشكوى".

فالشكوى بالنسبة إلى إقبال هي تضرّعٌ إلى الله، بسبب الألم والإحباط من حال المسلمين حول العالم، الذين يعيش غالبيتهم تحت حكمٍ استعماري أوروبي مباشر. ولكونه أيضاً من المولودين ضمن رعايا التاج البريطاني، فقد تتلمذ إقبال على يد الأساتذة والمؤسسات الأوروبية. وبعد أن قضى سنوات عديدة في الدراسة والسفر بين دول أوروبا لم يجد سبباً مقنعاً يجعل مجتمعاً وشعوباً تفتخر بالإلحاد والنظام الرأسمالي تربح أموالاً أكثر من المسلمين، الذين كانوا من أولياء الله الحقيقيين ويتعرضون للقمع والمعاناة.

وقد منح إقبال المسلمين صوتاً للتعبير في "الشكوى"، وخاصةً من شعروا بأنهم مثقلون بالأعباء تحت الحكم الإمبريالي، إلى جانب مشاعر الارتباك نتيجة وضعهم الحالي، والشعور بالحزن لأنّ الله لم يمنحهم التعويض الذي توقعوه عن تضحياتهم.


لكَ في البرِية حكمةٌ ومشيئـةٌ *** أعيتْ مذاهبُها أُولي الألبـابِ

إن شئتَ أجريْت الصحارى أنهُـراً *** أو شئت فالأنهارُ موجُ سـرابِ

مـاذا دهَى الإسلامَ في أبنائـهِ *** حتى انطوَوْا في محنةٍ وعـذابِ؟

فثراؤهم فقرٌ ودولةُ مجدِهـمْ *** في الأرض نهبُ ثعالبٍ وذئـابِ

عـاقَبْتنا عدلاً فهبْ لعدوِّنـا *** عن ذنبه في الدهر يومَ عقـابِ . "الشكوى"


وجادل إقبال بأنّ المسلم يمنح الله والدين كل ما في وسعه. ثم تساءل عن سبب كسب غير المؤمنين في هذا العالم، بينما يقنع المسلم بانتظار المكافأة الغامضة في الحياة التالية.

وفي القصيدة الثانية، جواب الشكوى، منح إقبال الصوت إلى الله حتى يُجيب شكوى المسلمين:


ألَمْ يُبْعَثْ لأُمَّتِكُمْ نَبِـيٌّ *** يُوَحِّدُكُمْ عَلَى نَهْجِ الوِئَـامِ

وَمُصْحَفُكُمْ وَقِبْلَتُكُمْ جَمِيعـاً *** مَنَارٌ لِلأُخُوَّةِ وَالسَّـلامِ

وَفَوْقَ الكُلِّ رَحْمنٌ رَحِيـمٌ *** إلهٌ وَاحِدٌ رَبُّ الأَنَـامِ

فَمَا لِنَهارِ أُلْفَتِكُمْ تَوَلَّـى *** وَأمْسَيْتُم حَيَارَى فِي الظَّـلامِ

وَحُسْنُ اللُّؤلُؤ الْمَكْنُونِ رَهْـنٌ *** بِصَوْغِ الْعِقْدِ فِي حُسْنِِ النِّظَـام. "جواب الشكوى"

ورغم أنّ الشكوى أزعجت الكثيرين، فإنها لم تكُن جديدةً بالكامل على أسماع المسلمين. فقبل بضع عقود، تحدّث الكاتب التركي ضياء باشا عن نفس المشاعر بأسلوبه الخاص.

ولاحقاً غنّت أم كلثوم نسخةً من شكوى إقبال أمام الجمهور عام 1967، عقب هزيمة مصر من إسرائيل، وأبكت الحاضرين. ورغم أنّ الشكوى وجوابها هما أهم قصائد إقبال في نظر الكثيرين، فإن إرثه أكبر من ذلك بكثير.

وليس إقبال معروفاً على نطاقٍ واسع في الغرب، ولكنّه تخرّج في جامعة كامبريدج، وكان عضواً في جمعية معالي لينكولن الشرفية في لندن، وحصل على درجة الدكتوراه من ألمانيا بعد أن خالط نخبةً من أعظم العقول في عصره.

ففي أثناء دراسته في كامبريدج تتلمذ على يد فيلسوف الهيغلية الحديثة جون مكتاغرت، كما التقى في باريس بهنري برغسون، الذي أثّرت أعماله على فلسفة إقبال، وكذلك تعرّف في إيطاليا موسوليني الذي كان معجباً به في البداية، قبل أن يرفض أفكاره لاحقاً.

وفي عام 1920 ترجم رينولد نيكلسون، الذي كان يُترجم أعمال جلال الدين الرومي إلى الإنجليزية، رائعة إقبال "أسرار خودى" أو أسرار الذات. وبذلك دخلت فلسفة إقبال إلى أوروبا للمرة الأولى، حيث أقر العديد من النقاد بأهمية أفكار إقبال الفلسفية الفريدة. ورغم أنّ إقبال كان من أشد نقاد أوروبا، فإنّه كان يُحب ألمانيا لأنّه كان من تلامذة كانت وهيغل ونيتشه وغوته.

وفي عام 1923 كتب إقبال رائعته "بيام المشرق" أو رسالةٌ من الشرق التي تُعتبر أول ردٍ من الشرق على قصيدة "الديوان الغربي الشرقي" لغوته، التي كانت في حد ذاتها أول ردٍ من الغرب على ديوان حافظ الشيرازي.

وفي الخمسينيات أسر شعر إقبال الفارسي قلب المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل، وأوضحت لاحقاً: "لو كان هناك شاعرٌ من الشرق يعشق الرومي وغوته، فهو شاعري المفضل". ومضت آنا في ترجمة أعمال إقبال إلى الألمانية والإنجليزية والتركية.

واليوم في تركيا يُعرف إقبال بأنّه "تلميذ الرومي". وقد قرأ محمد عاكف آرصوي، الشاعر الإسلامي التركي، قصيدة "بيام المشرق" ذات مرة وعلّق عليها قائلاً: "لقد قارنت بين الشاعر إقبال وبين نفسي، حيث قرأت جميع أشعار الصوفيين العظام… وهناك قصائد رائعة للغاية في بيام المشرق، وجعلتني بعض قصائد غزله أصرخ في حالةِ ثَمَلٍ".

وقد خصص إقبال العديد من أبيات شعره للاحتفاء بشجاعة الأتراك وانتصاراتهم، وخاصةً "خضر راه" أو خضر المرشد، و"طلوع الإسلام"، و"محاصرة أدرنة".

وقد مضى محمد عاكف لمنح نسخته من الكتاب إلى عبد الوهاب عزام، الذي كان على وشك أن يُعيّن سفيراً لمصر في باكستان، قبل أن يُترجم بعض أشعار إقبال إلى العربية.

وفي إيران يُعرف إقبال باسم "إقبال اللاهوري"، وكان تلاميذ المدارس يقرؤون شعره، قبل أن تُلهِم أبياته الثورة الإيرانية عام 1979.

ففي سنوات الثورة الأولى كان الإيرانيون يجتمعون لقراءة شعره في الحدائق والأماكن المغلقة. وقد كُتِبَت نصف أعمال إقبال في الأصل بالفارسية، وقد لاحظ العديد من النقاد الأدبيين العظام في إيران أنّ براعته في اللغة الفارسية لم يكن لها مثيل رغم أنّها ليست لغته الأم. إذ كتب إقبال بالفارسية الكلاسيكية، وهو أسلوب الكتابة الذي لا يُتقنه سوى الشعراء العظام.

ورغم بقاء أعمال إقبال وإرثه فإن رسالته بدأت تخبو، فخارج باكستان والعالم الناطق باللغة الأردية لا تُقرأ أشعاره إلا نادراً. وفي إيران بات إقبال الآن مجرد اسمٍ يُذكر في الكتب المدرسية، بينما صار أسلوبه الشعري عتيقاً وثقيلاً على القراء الشباب الذين يُفضلون حافظ. وفي تركيا وغيرها من الدول، بات ذكره مقصوراً على بعض أسماء الشوارع وهوامش أو حواشي الكتب.

ولم يعتبر إقبال نفسه مجرد شاعر لمسلمي الهند ومنتمياً إلى نخبة المثقفين الأردية، إذ نشر عام 1938 كتابه "إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام" باللغة الإنجليزية فقط، ويرى البعض أنّه تلميحٌ ضمني إلى كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي. ورغم نقل رسالة إقبال إلى الحركات القومية في العالم الإسلامي بعد وفاته، فإنها كانت خافتة.

وكان إقبال يُؤلِمه ويُحزِنه السبات الطويل الذي غطّ فيه العالم الإسلامي، والحدائق الفارسية العطرة التي كان المسلمون يرقدون فيها مستمعين إلى تغريد العندليب. وأراد إقبال أن يعود المسلمون إلى صحاري الحجاز ليشربوا من ماء زمزم، ويعيشوا حياة الاعتماد على الذات، والعمل، والإبداع.

وكان إقبال يأمل أن يقرأ الكثيرون أعماله بالإنجليزية والفارسية، وأن يُلهِم شعره ونثره أجيالاً من المسلمين الذين شعر أنّهم بحاجةٍ إلى تحذيرٍ من بريق الغرب وسحره.


تسيرُ بكَ القوافلُ مُسرِعـاتٍ *** بلا جرسٍ ولا ترجيعِ حـادي

ضياؤُك مشرقٌ في كـل أرضٍ *** لأنكَ غيرُ محدودِ المكـانِ


هذا الموضوع مُترجم عن شبكة TRT World.

TRT عربي