هنريتا لاكس، ضحية السرطان المتوفاة منذ فترة طويلة، التي عاشت خلاياها "الخالدة" لتغذية الأبحاث الطبية الحيوية لعقود من الزمن، مضى وقت طويل على الاعتراف بإسهاماتها في إنقاذ حياة الكثير حول العالم، حتى عام 2010 عندما نشرت المؤلفة ربيكا سكلوت كتاب "الحياة الخالدة لهنريتا لاكس".
أجرت المؤلّفة بحثاً على مدى سنوات ومقابلات مع أفراد عائلة لاكس وباحثين وأطباء لكتابة القصة المؤثرة والمهمّة هذه، وحوّل هذه القصة أيضاً المخرج جورج سي وولف إلى فيلم عام 2017 وقد لاقى استحسان النقّاد، مثيراً نقاشاً أخلاقياً بشأن الأبحاث الطبية واللا عدالة في التعامل مع المرضى من ذوي البشرة السوداء، وشاركت فيه مقدمة البرامج الأمريكية الشهيرة أوبرا وينفري.
بداية الحكاية
بدأت القصة في مستشفى "جونز هوبكنز" في مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند الأمريكية عام 1951، الذي يُعد المشفى الوحيد الذي قَبِلَ علاج الأمريكيين الأفارقة في المنطقة في ذلك الوقت، وبعد ولادة طفلها الخامس، اكتشف الأطباء وجود ورم داخل عنق الرحم لدى لاكس، أودى بحياتها في 4 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وكانت لا تزال في الـ31 من العمر.
وقبل وفاة لاكس، أخذ جرّاح عينات من ورمها لزرعها في المختبر، وكان العلماء يحاولون قبل ذلك عبثاً لإبقاء الخلايا البشرية حيّة في المختبرات، لكن خلايا لاكس كانت مختلفة، وظلّت حيّة وتستنسخ جيلاً جديداً من نفسها كل 24 ساعة، ولم تتوقف أو تتقدم في العمر قط.
وأُطلق على هذه الخلايا عليها اسم "هي لا" (الحرفان الأوّلان من اسمها وكنيتها)، وكانت تُعد الخلايا البشرية الأولى على الإطلاق التي تنمو بصورة مستمرة داخل المختبر، واستُخدمَت لعشرات السنين من دون علم عائلة لاكس.
خلايا "هيلا" تطوف العالم
أُرسلت عينات من خلايا "هيلا" لمختلف المختبرات حول العالم، حتى تعمّ الفائدة من استخدامها في الأبحاث الطبية وتطوير الأدوية واللقاحات، حيث شاركت في فهم سرطان عنق الرحم، والسل، والإيبولا، وفيروس نقص المناعة البشرية، بالإضافة إلى إرساء أسس لقاحات شلل الأطفال وفيروس الورم الحليمي البشري (HPV) وفيروس كوفيد ورسم الخرائط الجينية.
وأسهمت خلايا هنريتا في جهود القضاء على المرض الذي أودى بحياتها، وبعد اكتشاف العلاقة بين فيروس الورم الحليمي البشري وسرطان عنق الرحم، طُوِّر لقاح فعّال ضد الفيروس وذلك باستخدام خلايا "هيلا"، ويبدو أنّ العالم في طريقه للقضاء عليه بحلول نهاية القرن الحالي.
ولَولا دور تلك الخلايا في إرساء أسس تطوير بعض اللقاحات، خصوصاً اللقاح المستخدَم للوقاية من شلل الأطفال لكان من المُتوقَّع أن يصاب نحو 17 مليون طفل حول العالم بالمرض.
وكان لخلايا "هيلا" دور مهم في إنجاز علمي خارق آخَر بث الأمل في حياة الآباء والأمهات، إذ استُخدمَت خلاياها بشكل مباشر في تطوير عملية الإخصاب خارج الجسم "أطفال الأنابيب"، عندما وُلدت أول طفلة إخصاب "لويز جوي براون" عام 1978، في مانشستر بإنجلترا.
وأفادت هذه الخلايا ملايين الأشخاص، كما جَنَت شركات الأدوية مليارات الدولارات بفضلها، ومع ذلك فإنّ عائلة لاكس لم تكسب شيئاً من هذه الأرباح، بل إنّها في وقت من الأوقات لم يتمكن بعض أفراد الأسرة حتى من تحمل تكاليف التأمين الطبي.
قضية أخلاقية
ولم يكُن التقدم المذهل في الطب ممكناً من دون بحوث علمية أسهمت في فهم السلاسل الجينية للأمراض وتطوير اللقاحات والأدوية ثم اختبارها على الحيوان والإنسان للتأكد من فاعليتها.
وتحت ذلك تندرج أسس وضوابط أخلاقية تحترم خصوصية مَن تُجرى عليهم تلك الدراسات والبحوث، وهو ما لم يحدث في قضية هنريتا لاكس التي لطالما أثارت كثيراً من التحفظات الأخلاقية بشأن استخدام خلاياها على مدار عقود دون علمها أو موافقتها ودون أن يكون هناك مردود مادي لعائلتها من بعدها.
ولم يكتشف أحد من ذوي هنريتا أنّ خلايا والدتهم انتشرت حول العالم منذ أن توفيت، وأنّها قد استُخدمَت في الآلاف من براءات الاختراع، إلى أن تواصل معهم فريق من الباحثين من مشفى "جونز هوبكنز" عام 1973 لأخذ بعض عينات الدم منهم؛ لدراستها والوصول إلى فهم أفضل لخلايا "هيلا".
وصل الأمر عام 2013 إلى حدّ نشر المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية هي هايدلبرغ بألمانيا الخريطة الجينية لجينوم "هيلا"، ما هدّد بالكشف عن معلومات وراثية خاصة عن أحفادها، لكن سرعان ما جرى التوصل إلى حل وسط وتنظيم اتفاقية استخدام بيانات الجينوم المعجزة.
وفي الوقت الذي وضع فيه جينوم "هيلا" أسس صناعة التكنولوجيا الحيوية التي تقدَّر بمليارات الدولارات، قالت عائلة لاكس إنّها "لم تشارك أبداً في أي ثروة ناتجة عمّا يسمى (خط الخلية الخالدة)".
العائلة طالبت عام 2021 بالحصول على تعويضات من شركة التكنولوجيا الحيوية "ثيرمو فيشر Thermo Fisher"، لاستخدامها خلايا جدتهم الراحلة في بحوث علمية منذ عام 1951.
ووَصفت الدعوى القضائية التي رفعتها العائلة، النظام الطبي بـ"غير العادل على أساس عرقيّ"، قائلةً إنّ الشركة تستفيد من "السلوك غير القانوني" لأطباء "جونز هوبكنز"، وإنّ "مكاسبها غير المشروعة تعود إلى ملكية لاكس"، حيث تحقق الشركة إيرادات سنوية تبلغ نحو 35 مليار دولار، حسب ما تعلنه على موقعها في الإنترنت.
بدوره قال محامي الحقوق المدنية بن كرامب، الذي مثّل الأسرة في المفاوضات مع شركة "ثيرمو فيشر Thermo Fisher"، إنّ الإجراء الذي اتخذه الأطباء تركها في ألمٍ في نهاية حياتها.
وأضاف أنّ سوء المعاملة التي تلقَّتها يشبه التجارب التي عانى منها الأمريكيون السود الآخرون الذين طلبوا المساعدة من الأطباء الأمريكيين.
وحاولت الشركة الأمريكية مرات عدّة رفض القضية بسبب انتهاء صلاحية قانون التقادم، لكنَّ محامي عائلة لاكس قال إنّه لم يُتوصَّل إلى الحدّ؛ لأنّ الخلايا ما زالت تتكرر.
ومطلع شهر أغسطس/آب الجاري أعلنت العائلة توصلها إلى تسوية مع شركة "ثيرمو فيشر" تُنهي دعوى قضائية ضدّ الشركة المتخصصة في التكنولوجيا الحيوية، وقال وكيلا الدفاع عن عائلة لاكس في بيان، إنّ "الطرفين مسروران لأنّهما تمكّنا من التوصل إلى حلٍّ لهذه المسألة من دون اللجوء إلى القضاء".
اعتراف متأخر
وفي عام 2021، أحيت منظمة الصحة العالمية حفلاً يحتفي بذكرى الإنجازات العلمية الكثيرة التي حققتها السيدة لاكس "أم الطب الحديث" -كما أطلق عليها بعض العلماء- وقال المدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إنّ "ما حدث لهنريتا كان خطأ".
وأضاف غيبريسوس -في حفل خاص في جنيف بسويسرا: "استُغلت هنريتا لاكس، إنّها واحدة من كثير من النساء ذوات البشرة الملونة التي أساء العلم استخدام أجسادهن".
وتابع المدير العام للصحة العالمية: "لقد وضعت ثقتها في النظام الصحي حتى تتمكن من تلقي العلاج، لكنّ النظام أخذ منها شيئاً دون علمها أو موافقتها".
وفي عام 2022، عيّنت المنظمة أفراداً من عائلة لاكس سفراء للنوايا الحسنة للمنظمة معنيين بالقضاء على سرطان عنق الرحم، تقديراً لجهودهم المناصِرة للوقاية من سرطان عنق الرحم وصون ذكرى هنريتا.
ومن حيث بدأت القصة في جامعة "جونز هوبكنز"، وتكريماً لهنريتا لاكس، أطلقت الجامعة اسمها على أحد مباني الجامعة ليكون شهادة حية على إسهاماتها.
وسيجاور المبنى الجديد معهد "بيرمان لأخلاقيات البيولوجيا"، وسيدعم برامج تعزز البحوث العلمية وأخلاقيات البحث.
هل هناك قصص مشابهة؟
ويبدو أن هنريتا وعائلتها ليسوا وحدهم مَن عانوا من الممارسات الّلا أخلاقية في الطب، حيث تُستخدم خلايا وأجساد الناس دون موافقتهم، ودون إخبارهم عن ماهية الدراسة الحقيقية ويتعرضون لتغييب المعلومات.
وكان الغرض من تجربة توسكيجي للزهري -التي أُجريَت بين عامَي 1932 و1972 وطبِّقت على نحو 600 من المواطنين السود في الولايات المتحدة الأمريكية- مراقبة انتشار المرض وتشريح علمي للمتوفين بهذه الدراسة.
واستمرت التجربة 40 عاماً، تُرك خلالها مئات الرجال السود دون علاج لمرض الزهري دون علمهم، فيما كانوا يخضعون للمراقبة فقط حتى عندما أصبح العلاج متاحاً على نطاق واسع.
وبعد أن كُشف عنها وفُضح أمرها في الصحافة، أُدخلت اللوائح في عام 1974 التي تتطلب موافقة طوعية من جميع الأشخاص المشاركين في البحوث.
وأخيراً، ليس هناك مَن يُنكر أنّه كان من الخطأ أخذ خلايا هنريتا لاكس واستخدامها دون موافقتها، وكان من المفترض تصحيح ذلك بالطريقة والوقت المناسبين، لكنّ الوضع الراهن يثبت أنّ ذكرى السيدة لاكس الأم والجدة ستبقى في ذاكرة البشرية جمعاء بما قدمته خلاياها الفريدة للأحياء، فذكراها كما خلاياها لا نهائية.