هم شبابٌ مصريون، معارضون للنّظام. يعيشون خارج مصر. محرومون من الرّجوع إلى بلدهم خوفاً من "العقاب القاسي" للنظام المصري. كلّ ما يحلمون به هو خطوةٌ واحدة على أرضِ الوطن، والحقّ في التعبير عن الرأي دون أن يتعرّضوا للملاحقة.
هربٌ من الموت
يتصاعدُ دخان السّجائر في الهواءِ كثيفاً. تتعالى الضّحكات المجلجلةُ ساخرةً من العالم والحياة. هنا في هذه الشقّة الصغيرة في مكانٍ ما من إسطنبول، يجلسُ سامي (اسم مستعار) مع أصدقائه من المصريين، يسردون القصص، ويروون النّكت، بينما تصدحُ أم كلثوم بصوتِها الشجيّ "علّموني أندم على الماضي وجراحه".
يبدو كلّ شيءٍ على ما يُرام. ويبدو سامي راضياً عن حياته، مطمئنّاً ومرتاحاً وغير آبه بأيّ شيء. ينفثُ دخان سيجارته بعمق. لقد حصل على الماجستير في الهندسة، وأصبح الآن إعلامياً. لكن لا أحد يعرفُ أنّ هذا الشابّ الضحوك الذي بلغ بالكاد ربيعه السّابع والعشرين، قد نجا من حبل مشنقة.
سامي شابّ مصري مُقيمٌ بإسطنبول، ويواجه حكماً بالإعدام في بلده مصر، بسبب مشاركته في تنظيم مظاهرات واعتصامات، وبالضّبط تلك المتعلّقة بمدينة المنصورة شمالي شرق البلاد.
حين بدأت حملةُ الاعتقالات، ألقي القبضُ على أغلب أصدقائه، غير أنّ سامي استطاع الفرار. ظلّ مختبئاً لستة أشهرٍ كاملة. لم يكن الحكم بالإعدام قد أُصدر بعدُ في حقّه. لكنّه عاشَ جحيماً لا يُطاق في هذه الفترة.
"قضيتُ كلّ هذا الوقت متنقّلاً بين البيوت والمدن، خائفاً مرتعباً، لم أكن قادراً على استعمال الهاتف النقّال، ولا الذهاب إلى الجامعة"، يحكي سامي لـTRT عربي بغصّةٍ في الحلق.
يقول سامي إنّ أصدقاءه اضطرّوا للاعتراف بجريمةٍ قتلٍ لم يقترفوها، تحت وطأة التعذيب. "اتُّهمتُ بجريمة مراقبة عملية قتل ضابط، وحُكِم عليّ بالإعدام. لم تكن لي أيّ علاقةٍ بهذه الجريمة، لكنّ النظام كان يريد التخلّص منّي لأنني معارض"، يُضيف سامي وهو يسترجعُ ذكرياتِ إصدار الحكم عليه بمصر.
سجنٌ مفتوحٌ للمنتقدين
لم يكنْ لسلمى (اسم مستعار) انتماءٌ لأيّ اتجاهٍ سياسي معارضٍ للنظام المصري، ومع ذلك، عاشت هذه الشابة ذات 24 ربيعاً والمقيمةُ اليوم بإسطنبول، حالةَ رعبٍ كبيرة، ولا تزال. السّببُ، حسبها، هو اشتغالها في الصحافة، وإبداؤها الرأي في بعض الأمور التي تخصّ النظام، بالإضافة إلى علاقاتها الشخصية مع بعض المعارضين.
تعتدل في جلستها وهي تروي لـTRT عربي قصّتها. تتيه عيناها وهي تعود ثلاث سنواتٍ إلى الوراء، حين تمّ توقيفُها في المطار، واستجوابُها لمدّة ثمانِ ساعاتٍ، وسحبُ جواز سفرها، ثمّ منعها من السّفر إلى إسطنبول، حيث كانت تُتابع دراستها الجامعية.
"اتّهموني بالانتماء إلى الإخوان، مع أنّهم يعرفون أنّ عائلتي ليست معارِضةً للنّظام أصلاً، كانوا خائفين من أن تكون لديّ نشاطاتٌ تهدّد النّظام المصري"، تقول سلمى بنبرةٍ مُفعمةٍ بالاستنكار والحسرة.
ليست سلمى الوحيدةَ التي حُرمت من بلدها. مصريون كُثر يعيشون اليومَ في بلدانٍ مختلفة، كما لو أنّهم هاربون من القانون. يقضون أيّامهم يفكّرون في طريقةٍ للعودة، لكنْ، بدون جدوى. لقد تحوّلت مصر إلى "سجنٍ مفتوحٍ للمنتقدين"، يؤكّد تقريرُ منظّمة العفو الدولية حول حملات القمع ضدّ المعارضة في مصر.
في هذا السياق، يقول مصطفى فؤاد، حقوقي ومحامي مصري، في حديثه لـTRT عربي أنّ "ما يفعلُه النّظام المصري حالياً هو القضاء على ثورة 25 يناير في مخيّلة الجماهير، وعلى كلّ صوتٍ شارك في الثورة، وعلى كلّ فتحةٍ افتُتِحت في حائط الصّمت بعد الثورة".
"لا أستطيع العودةَ الآن. أخاف أن يستجوبوني مرّةً أخرى، أن يسحبوا جوازي، أن يمنعوني من السّفر. خوفي هذا مُبرّر، لأنّه ليس ثمّة ضماناتٌ أنني لن أتعرّض للأذى"، تقول سلمى بأسى.
"نظامٌ يخاف معارضيه"
بألمٍ واضح، يتوقّف عبد العزيز قليلاً قبل أن يبدأ في سردِ قصّته. ينفثُ دخان سيجارته بتوتّر، ناظراً عبر النّافذة المفتوحة إلى السّماء الإسطنبولية المتقلّبة بحزن، كأنّما يرى كلّ مشاهد الظلم التي مرّ منها في مصر.
عبد العزيز، هذا الشابّ الضّحوك ذو 24 عاماً، والطالب الجامعي النشيط، جاء
إلى إسطنبول منذ ثلاث سنوات هارباً من مصر، بعد الحكمِ عليه بخمس سنواتٍ سجناً.
"اعتُقلت مرّتين، واستمرّ اعتقالي في المرّة الأولى سبعة أشهر، والسّببُ هو مشاركتي في الأحداث الثورية التي عاشتها مصر، بدايةً بثورة يناير، وما بعد الانقلاب العسكري، وأحداث الحراك الجمهوري وغيرها"، يقولُ عبد العزيز لـTRT عربي عن أسباب اعتقاله والحكم عليه بالسّجن.
في نفس الإطار، يُبيّن تقرير أصدرته منظّمة العفو الدولية في أكتوبر/تشرين الأول 2018 أنّ السّلطات المصرية واصلت وكثّفت حملة القمع الأخيرة ضدّ المعارضة، والتي بدأت منذ نهاية عام 2017، قبل عقد الانتخابات الرّئاسية.
فخلال عشرة أشهر فقط، منذ ديسمبر/كانون الثاني 2017 إلى غاية إصدار التقرير، قامت قوات الأمن بعمليات اعتقال واحتجاز بشكل تعسّفي لما لا يقلّ عن 111 شخصاً، لمجرّد التعبير السلمي عن آرائهم بانتقاد السّلطات، أو الدعوة والمشاركة في المظاهرات والتجمّعات السياسية، حسب ما يؤكده التقرير نفسُه.
لماذا يعتقل النّظام المصري مُعارضيه، سواء كانوا ليبراليين أو إسلاميين أو يساريين؟ يُجيب أيمن نور، سياسي مصري ونائب سابق بمجلس الشعب في حديثه لـTRT عربي: "في الدول الاستبدادية التي تحصل فيها انقلابات عسكرية، تُصبح الأنظمةُ الحاكمة في حالة عداءٍ مع أصحاب الرأي والموقف، وهو ما حدث في مصر بعد انقلاب 2013، حيث أُصدِرت أحكامٌ ظالمةٌ في قضايا رأي في حق الكثيرين، ما أدّى إلى هروبهم خارج البلد".
منفى اختياري؟
عندما غادرت سلمى مصر آخر مرّة، كانت تعرِف أنّها لن تعود. وحينما وصلت إلى إسطنبول، انتبهت إلى وجود لافتةٍ معلّقة وراء مكتب ضابط الجوازات. تحمل اللافتةُ شعاراً إشهارياً لمحلّ أثاث كُتب عليه: Welcome Home. "في تلك اللحظة بالذات، شعرتُ أنني إنسانٌ بلا وطن. بكيت. شعرتُ أنّ الوطن حاصرني وضايقني وانتقم منّي ولفظني"، تقول سلمى وهي تكابِر لتمنع دموعها من الانهمار.
أغلبُ من هرب من مصر، خوفاً من الاعتقال أو الأحكام الثقيلة التي صدرت في حقه، عاجزون عن العودة اليوم. الكثيرون يتكلّمون عن "المنفى الاختياري للمصريين في إسطنبول"، لكنّ سلمى ترى أنّه "منفى إجباري، لأنّ هؤلاء أجبروا على وضعٍ معيّن، ومضطرّون لتحمّله، ولم يكن أمامهم خيار ثانٍ".
بالنّسبة لأيمن نور، فإنّه "من ضمن التعسّف والاستبداد الذي يُمارسه النّظام المصري هو منع إصدار جوازات سفر للمعارضين في الخارج، فالاعتداء على حقّ الإنسان في السّفر ليس فقط اعتداءً على حقّ أصيل، بل أخطر من ذلك، إنّه يمنعك من العودة إلى بلدك. وهي كارثةٌ يزداد حجمُها على مرّ السنوات، نتيجة انتهاء صلاحية جوازات سفر الكثير من المصريين بالخارج".
انسلاخٌ عن الوطن
"لستُ
خائفاً من الإعدام، فالدولة التركية لن تسلّمني، لكنّني أشعرُ بالألم لأنّني لم
أعد جزءاً من أي شيء، لا من وطني ولا من أهلي"، يقول سامي بحزن، مضيفاً:
"إخوتي تزوّجوا وأنجبوا أطفالاً دون أن أراهم، كأنّني لم أعد أشكّل جزءاً من
تلك العائلة. كلّ شيء يتغيّر هناك، وأنا عاجزٌ عن مشاركتهم أفراحهم
وأحزانهم".
يُصرّح العديد من المعارضين الهاربين من مصر أنّهم فقدوا الإحساس بالأمان، ويُجمعون على أنّ النّظام المصري انتزع منهم وطنهم وأهاليهم.
ووصف تقرير منظّمة العفو الدولية إدارة السيسي في ما يخصّ حملات الاعتقالات بـ "القسوة في ملاحقتها لأي معارضين أو منافسين سياسيين محتملين، فقبل انتخابات مارس/آذار 2018، اعتقلت السلطات المصرية شخصياتٍ سياسية انتقدت الرئيس، بل إنّ حملة الاعتقالات اجتاحت أيضاً أشخاصاً شاركوا في مظاهرات سلمية أو بثوا تعليقاتٍ منتقدة على مواقع التواصل الاجتماعي، وآخرين احتجّوا على ارتفاع أسعار المواصلات وسلطوا الضوء على ظاهرة التحرّش الجنسي".
حلم العودة
"في اللحظة التي حلّقت فيها الطائرة متّجهة نحو إسطنبول، أدركتُ أنني صرتُ بلا وطنٍ ولا بيت"، يقول عبد العزيز بحسرة.
بالنسبة إليه، فإنّ مصر بلدٌ يستحيل العيش فيه بسبب أوضاعها الاجتماعية
السيئة، ولكنّ الحرمان من زيارتها مرّةً في السّنة للاطمئنان على العائلة
والأصدقاء شيءٌ مرعب. "لقد فقدتُ الإحساس بالدفء والاستقرار. صرتُ شريداً.
ستنتهي صلاحية جوازي بعد فترة، وسأصبح بلا هوية".
هل سيعودون يوماً؟ لا أحد يعرف. وهؤلاء الشباب الثلاثة الجالسون الآن في شقّةٍ بإسطنبول، متقاسمين وحدتهم وغربتهم وخوفهم، لا يحلمون سوى بوطنٍ يحتضنهم، بنظرةٍ واحدة في وجوه أمّهاتهم، بالمشي في الأماكن التي عاشوا فيها طفولتهم.
"تصادفني أحياناً صورٌ على مواقع التواصل لأصدقائي القدامى وسط عائلاتهم، وأتساءل: هل سيأتي يومٌ أتمكّن فيه من التقاط صورةٍ كهذه وسط عائلتي؟" تتساءل سلمى بحرقة.
ومع ذلك، يحاول هؤلاء الشباب الاستمرار في مقاومة الاغتراب، يعملون،
ويدرسون، ويبنون مستقبلهم. وحين تستبدّ بهم الوحشة والإحساسُ بالغبن، يجتمعون في
هذه الشقة الصغيرة، يُسندون آلامهم على أكتاف بعضهم البعض، ويحلمون بالعودة وهم
يستمعون إلى أمّ كلثوم وهي تصدح: "رجعوني عينيك لأيام لّي راحو... علّموني
أندم على الماضي وجراحه"...