يأخذ متحف التاريخ والحضارات بالرباط الزائرين في سفر ممتع لاكتشاف تاريخ المغرب منذ مليون سنة إلى القرن التاسع عشر، ويحتضن المتحف معرضاً عنوانه "المغرب عبر العصور"، يقدم ما يزيد على 400 قطعة أثرية تسلط الضوء على الوجود الإنساني شمال غربي إفريقيا ومختلف الحضارات التي تعاقبت على المنطقة.
ويتميز المعرض -يستمر إلى يناير/كانون الثاني المقبل- بعرض جمجمة الإنسان العاقل القديم التي عُثر عليها في جبل إيغود (وهو موقع أثري من العصر الحجري) في ضواحي مدينة آسفي على ساحل المحيط الأطلسي.
وأعيد تأريخ الجمجمة سنة 2007 من طرف فريق دولي بإدارة عالِمَي الآثار عبد الواحد بنصر وجون جاك هيبلان في 315 ألف عام قبل الحاضر.
أصول الإنسان بإفريقيا
ويقول المحافظ العام لمتحف التاريخ والحضارات أنس السدراتي لـTRT عربي إن هذه القطعة هي الأكثر بروزاً وأهمية في المعرض، كونها أعادت كتابة تاريخ الصنف البشري (الهومو سابيان أو الإنسان العاقل)، ونقلت أصول الإنسان إلى شمال غرب إفريقيا بعدما كانت الاكتشافات الحفرية لعظام الإنسان الحديث محصورة في جنوب القارة وشرقها، حيث إن أقدم اللقى العظمية للإنسان العاقل المكتشفة بإثيوبيا مؤرخة بنحو 200 ألف سنة.
ويوضح السدراتي أن القطعة المعروضة قولبة من الراتنج وهي مادة صمغية تستعمل لصنع نسخ من القطع المتحفية لعرضها أو لأغراض تعليمية، بينما تُحفظ القطعة الأصلية بخزائن المتحف في ظروف حفظ مثالية لأغراض البحث العلمي.
وليست هذه القطعة الوحيدة في المعرض الدالة على قدم الوجود الإنساني في الشمال الغربي لإفريقيا، بل يعرض المتحف أيضاً جمجمة الإنسان العاقل (العصر الحجري الحديث) التي اكتُشفت في الصخيرات، ومدفن شخصين يعود تاريخه إلى نحو 5900 سنة، اكتُشف بضواحي الرباط عام 1978 ويتعلق بشخصين بالغين (رجل وامرأة) دُفنا بوضعية جنينية، وهي طريقة الدفن التي كانت متداولة عند إنسان العصر الحجري القديم، إضافة إلى لقى أثرية أخرى اكتُشفت في عدد من المواقع ما قبل التاريخية وتعكس أساليب العيش والطقوس الدينية للإنسان القديم.
أهمية علمية وتاريخية
وتكتسي القطع المعروضة في المتحف حسب السدراتي أهمية علمية وثقافية وتاريخية وجمالية، ويصفها بأنها كنوز علم الآثار بالمغرب، التي تؤرخ كرونولجياً للوجود الإنساني في هذا البلد منذ حضارات ما قبل التاريخية (الأشولية والموستيرية والعاترية والإيبيروموريزية والعصر الحجري الحديث فعصر ما قبيل التاريخ أو ما يعرف بالعصر البرونزي)، وهذه اللقى المعروضة تتراوح بين أدوات حجرية وعظمية كان يستعملها الإنسان في الصيد وتسهيل حياته اليومية.
وينتقل المعرض إلى الفترة الكلاسيكية والميكروقديمة، وهي بداية اتصال الإنسان المغربي بحضارات البحر الأبيض المتوسط مع الحضور الفينيقي للسواحل المغربية منذ القرن 12 قبل الميلاد، ثم القرطاجيين والممالك المحلية المورية، ثم الدخول الروماني في بداية القرن الأول للميلاد وما يسمى "رومنة المغرب".
ويظهر من خلال القطع المعروضة من خزف وحلي وأوانٍ وتماثيل وأسلحة تأثُّر إنسان المنطقة بتلك الحضارات، وشمل هذا التأثير اللغة والدين وأسلوب العيش.
السلالات الإسلامية
ومنذ خروج الرومان من شمال إفريقيا بالقرن الرابع الميلادي إلى الفتح الإسلامي لا يُعرف الكثير عن هذه الفترة الانتقالية، إلا أن بعض اللقى الأثرية المعروضة بالمتحف منها قناديل ومباخر تظهر وجوداً جليّاً لليهودية والمسيحية القديمة.
وتمكِّن القطع الأثرية الخاصة بالفترة الإسلامية من التعرف عن قرب على السلالات الإسلامية التي تعاقبت على حكم المغرب، بدءاً بالدولة الإدريسية والمرابطية والموحدية وصولاً إلى المرينية والعلوية، وذلك من خلال العملات الذهبية والفضية والخزف والأدوات العلمية والمعمار.
وتعكس هذه القطع اهتمام تلك الدول بالعلوم سواء تعلق الأمر بقياس الوقت أو الزمن (المزولة أي الساعة الشمسية) وتحديد مكيال الزكاة (المد) أو كيفية استخراج المعطيات الفلكية (الاسطرلاب)، إذ عرفت علوم الفلك والتنجيم تطوُّراً مهماً في المدن العلمية مثل فاس ومراكش.
ويخصص جناح في المتحف لعرض بعض عناصر الزخرفة المغربية التي تتميز بأسلوب يمزج بين الفنين الأندلسي والمغربي، وتكشف القطع المعروضة اعتماد الصانع خلال تلك الفترة في الزخرفة على مواد متنوعة أبرزها الرخام والزليج لتزويق الحائط إما بزخارف هندسية وإما نباتية، بالإضافة إلى الخشب الذي استُعمل بشكل كبير في البناء وفي تكسية الجدران سواء بالخشب المخرم أو بالخشب المنقوش والمزين بالخط العربي أو بآيات قرآنية.
عودة الحياة إلى طبيعتها
ويسعى هذا المعرض وغيره من المعارض التي ينظمها باقي المتاحف في الرباط لإعادة الحياة الثقافية إلى طبيعتها بعد الرفع التدريجي للحجر الصحي منذ يونيو/حزيران الماضي، ومع مراعاة استمرار حالة الطوارئ الصحية التي فرضها انتشار جائحة فيروس كوفيد-19.
وعلى الرغم من انخفاض زيارات السياح بسبب منع السفر بين البلدان، فإن متحف التاريخ والحضارات عمل -حسب محافظه- على تطوير العرض الثقافي ليكون موجهاً للمغاربة بالأساس ويمس اهتماماتهم ويجذبهم بمواضيع قريبة منهم.
يقول السدراتي: "نحاول تحريك المشهد الثقافي بتنظيم معارض جديدة واستقبال الزوار في ظروف آمنة تراعي التدابير الاحترازية التي يفرضها التعايش مع الجائحة وتوفر المتعة والفائدة"، وهو ما تحقق -في نظره- من خلال إقبال الأسر والشباب نهايات الأسبوع لاكتشاف تاريخ بلادهم من خلال معرض "المغرب عبر العصور".