نحو إعادة النظر في الذعر البشري من الآلة
على عادة البشر في تعاطيهم مع أي دخيل جديد على حياتهم، سادت مشاعر التخوف والحيرة. ومع مرور الوقت تملك الشعور بالذعر غالبية المداولات التي تتحدث عن الذكاء الصناعي، وبات الشعور بأن التنبؤات التي أشعلتها أفلام الخيال العلمي باتت تقرع أبواب الواقع.
بالرغم من أن إثارة هذه التخوفات تبدو مشروعة من حيث المبدأ فإن الاكتفاء بالنظر إلى الذكاء الصناعي من الزاوية التقابلية ما بين "نافع" و"ضار" يبدو أمراً سطحياً للغاية. (Others)

منذ بداية عام 2023، والأحاديث المتعلقة بالذكاء الصناعي تتصدر عناوين الأخبار والمداولات في الدوائر السياسية والأكاديمية. وخلال فترة وجيزة، وتحديداً منذ أن أعلنت شركة OpenAI عن نموذجها الخاص من الذكاء الصناعي التوليدي ChatGPT، أصبحت مواضيع الذكاء الصناعي رائجة عالمياً بلا منازع.

وعلى عادة البشر في تعاطيهم مع أي دخيل جديد على حياتهم، سادت مشاعر التخوف والحيرة. ومع مرور الوقت تملك الشعور بالذعر غالبية المداولات التي تتحدث عن الذكاء الصناعي، وبات الشعور بأن التنبؤات التي أشعلتها أفلام الخيال العلمي منذ سنوات باتت تقرع أبواب الواقع، وما هي إلا فترة قصيرة حتى نشهد أول انقراض من صنع البشر، وهو الانقراض الذي بات يعبر عنه أكاديمياً بـ"الانقراض السادس".

في المجمل، التخوفات حول الذكاء الصناعي تستند على أربعة محاور رئيسية، وهي أولاً: سعي الآلات إلى الحلول مكان البشر في عمليات صنع القرار، والاقتراب تدريجياً من مرحلة الاعتمادية المفرطة. وثانياً: قدرتها الهائلة على توليد ونشر الأخبار المزيفة والمضللة وتسميم الفضاء العام. وثالثاً: تقليص الأيدي العاملة البشرية والسيطرة على الوظائف، أي الوصول إلى ما يشبه مرحلة الأتمتة والميكنة الشاملة للعمل، وأخيراً الوصول إلى سيناريو "يوم القيامة" عندما تُستبدل الآلة بالبشر وتذهب بهم إلى حالة من الانقراض الذاتي.

وبالرغم من أن إثارة هذه التخوفات تبدو مشروعة من حيث المبدأ فإن الاكتفاء بالنظر إلى الذكاء الصناعي من الزاوية التقابلية ما بين "نافع" و"ضار" يبدو أمراً سطحياً للغاية. وإذا كانت هذه النظرة الاختزالية تعتبر غير ذات جدوى في حق المنتجات التكنولوجية بشكل عام، فهي أكثر بُعداً عن وصف الواقع في حق تقنيات الذكاء الصناعي وذلك لسبب جوهري هو أن هذه التقنيات ذات طبيعة انغمارية إذ تتداخل بشكل واسع في الاستخدامات الحياتية للبشر وتصوراتهم وانطباعاتهم وطريقة تفكيرهم وفهمهم للواقع.

لذلك يطلب منا الواقع الجديد الذي يفرضه علينا الذكاء الصناعي الذهاب في النظر إلى ما بعد النتائج المجردة لمعادلة نافع/ضار والبحث في آليات استخدام تقنيات الذكاء الصناعي، أي النظر في حسن أو سوء عملية الاستخدام في حد ذاتها.

ولتقليل الذعر المصاحب للبشر عند النظر إلى الذكاء الصناعي ينبغي إعادة صياغة فهمنا للتكنولوجيا بشكل عام وعلاقتها بالمجتمع. بالمجمل، فإن نظريتين رئيسيتين تتصدران لفهم التكنولوجيا وتداخلاتها الاجتماعية هما: النظرية البنائية الاجتماعية والنظرية الحتمية التكنولوجية.

ترى النظرية الحتمية التكنولوجيا كياناً محايداً، غير مبال بالديناميكيات المجتمعية. ينطوي هذا الفهم على اعتقاد مفاده أن التكنولوجيا قابلة من حيث بناها التكوينية على الاستقلال بذاتها والسير في طريق تصادمي مع الإنسان. وهي نظرة تكتنز في ثناياها معاني العداء والخصام والمنافسة ما بين الإنسان والآلة. وتوصف الآلة من خلالها بأنها كيان ضار من حيث المبدأ وقد يتحول إلى كيان مارق.

في المقابل، تشير البنائية الاجتماعية إلى أن تطور التكنولوجيا هو نتيجة مباشرة للتفاعلات المجتمعية والثقافية بين الإنسان وبيئته المحيطة. ولذلك فالتكنولوجيا لا تكتسب صفة استقلالية بحد ذاتها ولا تعتبر نتائجها حتمية من حيث المبدأ.

على العكس، تخضع النتائج لآليات التفاعل المتبادلة ما بين الكيانات الاجتماعية أي الإنسان والبنى الاجتماعية والثقافية والآلة. يتضمن هذا الفهم فكرة مفادها أن التكنولوجيا ليست مبنية عن قصد مسبق وحسب، بل تجد لها اتجاهات وأغراضاً جديدة بعد الإنشاء نتيجة لطبيعة التفاعلات وديناميكيتها السياقية وفق شروط الزمان والمكان (أو ما يطلق عليه الزمكان).

وفق هذا الفهم التفاعلي للبنائية الاجتماعية، للبشر هامش واسع لإعادة ضبط التكنولوجيات التي ينشئونها وفق المصالح العليا التي تخدم الإنسانية وتقليل مضارها إلى أقل حد. تبدأ هذه العملية من وضع شروط تحسين استخدام هذه التقنيات، وخلق بيئة تنافسية تتسم بالعدالة وتبتعد عن شروط السوق الحر النهم إلى الربح والهيمنة، وردم الفجوة بين أولئك الذين "يملكون" والذين "لا يملكون" القدرات والتقنيات التكنولوجية، إذ يعتبر غياب العدالة واللامساواة من أخطر العوامل التي تقود إلى سوء استخدام التكنولوجيا، وأخيراً تحييد هذه التقنيات عن الصراعات الجيوسياسية بين الدول الكبرى.

تبرز آليات صنع القرار واحدة من أهم الأمثلة التي تروي قصة الانخراط التفاعلي بين الإنسان والآلة. ففي عصر التقنيات التوليدية مثل ChatGPT وBrad، لم تعد الآلات مجرد ببغاوات آلية تردد ما يملى عليها من البشر بل أصبحت تمتلك بفضل تقنية Machine Learning على خصائص توليدية واستكشافية وتفاعلية قادرة بشكل ذاتي على تقديم خيارات واحتمالات وتفحص بيئات لم تكن في متناول الإنسان من قبل ويحتاج إلى وقت طويل وجهد هائل للوصول إليها من تلقاء نفسه. وكما ورد في مقدمة كتاب The Age of AI: and Our Human Future فإن "ظهور الذكاء الصناعي يلزمنا مواجهة ما إذا كان شكل من أشكال المنطق لم يحققه البشر أو لا يستطيعون تحقيقه، واستكشاف جوانب الواقع التي لم نعرفها أبداً وربما لا نعرفها بشكل مباشر".

بناء على ذلك، فإن الذكاء الصناعي سوف يسهل، وفق المؤلفين (وهم هنري كيسنجر وإريك شميدت ودانييل هوتنلوشر)، عالماً يجري فيه اتخاذ القرارات بثلاث طرق أساسية: من البشر (وهو أمر مألوف)، والآلات (وهو أمر أصبح مألوفاً)، والتعاون بين البشر والآلات (وهو أمر ليس فقط غير مألوف ولكنه أيضاً غير مسبوق).

يشدد المؤلفون الثلاثة على فكرة جوهرية مفادها أن الذكاء الصناعي يعمل، وفق هذا الفهم التفاعلي، على تحويل الآلة من مجرد أداة إلى شريك. فمن خلال قدرات الذكاء الصناعي الهائلة، سيكون لدى الإنسان القدرة على استكشاف خيارات وربما واقع لم يكن متاحاً له من قبل. سيجري ذلك من خلال التعاون ما بين البشر والآلة ولذلك فإنه من الأهمية بمكان عدم توليد ردة فعل عنيفة أو سلبية أو تصادمية مع هذا الشريك الذي نبينه ونطوره نحن البشر.

إن تغلغل النظرة التصادمية مع الآلة، واختزالها في عنصري التهديد والفناء، سوف يحرم البشر فرصة تاريخية من مستوى الفرص التاريخية السابقة كاكتشاف النار واختراع الآلة الطابعة.

على المدى القريب يبرز التحدي أمام الإنسان ليس في تقييد الآلة ولكن في إعادة تكيف البيئات الاجتماعية بما يتلاءم مع الوافد التقني الجديد لمنع وتقليص الاختلافات التي ربما تنجم عن معادلة الانخراط بين البشر والآلة. ففيما تطور المجتمعات المختلفة شراكاتها بين الإنسان والآلة بأهداف مختلفة، ونماذج تدريبية مختلفة، وهياكل تعليمية متنوعة، ولوائح أخلاقية ووظيفية متضاربة، فإن فرص أن تتحول هذه المجتمعات إلى مزيد من التنافس وعدم الاتساق التكنولوجي وزيادة سوء الفهم المتبادل تعد أكثر من أي وقت مضى.

TRT عربي