هل يُنهي الدولار الرقمي عصر العملات المشفرة؟
فتح التقرير الذي أصدره مجلس الاحتياطي الفيدرالي حول إمكانية إصدار دولار رقمي، في وقت تدرس فيه نحو 90 دولة أخرى طرقاً لرقمنة عملاتها، باب التكهنات واسعاً على العاصفة التي قد لا تُنهي عصر العملات المشفرة وحسب، بل ستقلّص الحاجة إلى البنوك أيضاً.
هل يُنهي الدولار الرقمي عصر العملات المشفرة؟ (AdobeStock / Alexey Novikov) (Others)

في يناير/كانون الثاني من عام 2009، وبينما كان العالم مثخناً بالخسائر المالية التي عصفت بالعالم أجمع بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا عام 2008، ولدت عملة رقمية جديدة لا مركزية لعصر ما بعد الأزمة، ووعدت البيتكوين أن تكون البديل المالي للنظام المالي السائد لأولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة مرتابين من المؤسسات المصرفية التقليدية لعقود ماضية.

ومنذ إطلاقها قبل أكثر من عقد، لم تهيمن البيتكوين وبقية العملات الرقمية الأخرى على صناعة مالية تجاوزت قيمتها 2.22 تريليون دولار وحسب، بل إنها لم تعد بدعة سرية ينتابها الغموض وأصبحت بالنسبة للبعض عملة تمثّل مستقبل المال داخل المدن الفاضلة التي يحلّ فيها التشفير مكان العملات التقليدية، وذلك بعدما دخلت السلفادور التاريخ من خلال أن تصبح أول دولة في العالم تتبنى عملة البيتكوين كعملة قانونية في سبتمبر/أيلول الماضي.

ومما لا شك فيه أن صعود الطلب العالمي الهائل على العملات المشفرة وضع الحكومات في حالة تأهب، وجعلها تستعرض خياراتها لطرح عملات رقمية خاصة بها تصدرها بنوكها المركزية، فدول مثل الصين والسويد بدأت بالفعل العمل على رقمنة عملاتها، في حين لا يزال مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لا يؤيد أو يعارض العملة الرقمية للبنك المركزي.

الدولار الرقمي

مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يصدر تقريراً يدرس إمكانية إصدار دولار رقمي (dailyadvent) (Others)

أصدر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الخميس، تقريراً طال انتظاره حول الدولار الرقمي يوضح الفوائد والمخاطر المحتملة لرقمنة الدولار الأمريكي بالكامل، ليكون ذلك بمثابة الخطوة الأولى في عملية قد تؤدي إلى اتخاذ الكونغرس إجراءات قد تساعد في بناء الزخم للتشريع الذي من شأنه أن يأذن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بالمباشرة في تصميم نظام بالعملة الرقمية.

وأشار التقرير الجديد الذي حدد حتى الآن إيجابيات وسلبيات العملة الرقمية للبنك المركزي، إلى أن إنشاء دولار رقمي مدعوم من حكومة الولايات المتحدة من شأنه أن يؤدي إلى عمليات تحويل واستلام أموال بشكل أسرع، فضلاً عن إتاحة إمكانية الوصول إليه بشكل أكبر من النظام المصرفي الحالي، وهو الأمر الذي يشكّل تهديداً حقيقياً للنظام المصرفي الحالي، إلى جانب سوق العملات المشفرة التي تشهد شتاءً قاسياً بالفعل.

ومع ذلك، فإن إنشاء دولار رقمي سيكون بمثابة تحوّل هائل في حجم الدور الذي ستلعبه الحكومة الأمريكية في الموارد المالية داخل البلاد وخارجها، حيث إن الحكومة الأمريكية ستبقى مستمرة في دعم "الدور الدولي المهيمن للدولار الأمريكي"، وفقاً لما جاء في الورقة البحثية التي ترى بأن العملة الرقمية للبنك المركزي ستكون بمثابة ترقية رقمية كبيرة للصيغ الحالية للعملة.

وإلى جانب الجوانب السلبية المحتملة التي قد تجعل من البنوك التجارية أقلّ جاذبية للمستهلكين، يمكن أن يؤثر الدولار الرقمي أيضاً على قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على التأثير على النظام المالي.

"شتاء التشفير"

منذ إطلاقها قبل أكثر من عقد، هيمنت البيتكوين وبقية العملات الرقمية الأخرى على صناعة مالية تجاوزت قيمتها 2.22 تريليون دولار (Coin Market Cap) (Others)

جاء التقرير الذي أصدره مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو خطوة متقدمة لدراسة إمكانية إصدار دولار رقمي، في وقت تدرس فيه نحو 90 دولة أخرى طرقاً لرقمنة عملاتها، وفقاً لرويترز. فبينما يدرس البنك المركزي الأوروبي إمكانية إنشاء يورو رقمي، وتختبر الصين اليوان الرقمي الذي تعمل عليه منذ عام 2014، ها هي الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد عالمي، تدرس إمكانية رقمنة دولارها المهيمن على التجارة والإدخار العالمي.

هذه الخطوات الرقمية، إلى جانب السياسات النقدية الأكثر صرامة والتقلبات السياسية الأخرى التي تؤثر بشكل سلبي على العملات الرقمية، والتي كان آخرها في كازاخستان التي تحتكر أكثر من 18% من إنتاج عملة البيتكوين، دفع بنك "UBS" إلى نشر ورقة بحثية في 14 يناير/كانون الثاني الجاري محذّراً من "شتاء تشفير" ثانٍ قد تشهده العملات المشفرة، التي شهدت شتاءها الأول في 2018، وذلك عندما انخفضت عملات البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى بأكثر من 75%، والتي استغرقت نحو ثلاث سنوات للعودة إلى المستويات المرتفعة السابقة قياساً بعام 2017.

كما يرى "UBS"، أن العملات المشفرة ارتفعت نسبياً في عام 2021 بسبب السياسات النقدية غير الطبيعية التي أغرقت الأسواق العالمية بسيولة زائدة، وهو ما جعل من البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى لتكون بمثابة الموانئ الاستثمارية التي تحمي المستهلكين من تأثيرات التضخم، لكن هذه العملات قد تفقد جاذبيتها إذا ما قررت البنوك المركزية رفع معدلات الفائدة لمكافحة التضخم الذي يضرب أكبر الاقتصادات العالمية.

وخلال عطلة نهاية الأسبوع، انخفضت عملة البيتكوين إلى قرابة 34 ألف دولار، محققة بذلك خسارة وصلت لنحو 50%، وذلك بعد أن وصلت قيمتها العليا لقرابة 69 ألف دولار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ولم يقتصر الأمر على بيتكوين وحدها، فقد شهدت العملات المشفرة الأخرى انخفاضاً مشابهاً.

تقليص هيمنة البنوك

من شأن خطوة سريعة باتجاة دولار رقمي أن لا يؤثر بشكل سلبي على سوق العملات المشفرة اللا مركزية وحسب، بل من الممكن أن يشكل أيضاً ضربة قاسمة للبنوك التجارية والنظام المصرفي بشكل عام، وذلك لأن البنك المركزي والتقنية التي ستُستخدم ستكون هي المسؤولة عن تنفيذ المهام التقليدية التي تقوم بها البنوك التجارية في الوقت الحالي.

فإلى جانب المزايا الجيدة التي يمكن أن تجمعها العملات الرقمية التي ستصدرها البنوك المركزية، وأبرزها ميزة التحويلات السريعة والسهلة بين الأفراد والشركات (حتى عبر الحدود)، بالإضافة إلى إمكانية وصول أكبر للأشخاص الذين ليس لديهم حسابات بنكية وتوفير المزيد من الأمان والثقة للمستهلكين، خصوصاً وأن الأفلاس ونقص السيولة هما أمران أقل احتمالاً مع حكومة الولايات المتحدة إذا ما قورنت بالبنوك التقليدية.

ولهذا سيتعيّن على الحكومة التعامل مع رد فعل السوق على تولّي الولايات المتحدة دوراً تخدمه تقليدياً البنوك التجارية، وسيتطلب ذلك أيضاً من المواطنين الوثوق بالحكومة مباشرةً بشأن جميع معلوماتهم المالية، رغم أن التقرير الأخير يشير بشكل غامض إلى أنه يمكن التخفيف من هذا القلق من خلال السماح لـ"الوسطاء" بمعالجة مخاوف الخصوصية "من خلال الاستفادة من الأدوات الموجودة".

TRT عربي