يأتي ذلك على خلفية موافقة زعماء دول مجموعة السبع في قمتهم التي انعقدت في إيطاليا في 13 يونيو/حزيران الحالي على منح أوكرانيا قرضاً بـ50 مليار يورو (54 مليار دولار) مقتطَعة من الفوائد الناتجة عن أصول الدولة الروسية المقدرة بنحو 280 مليار دولار.
ووفق تحليل المجلة المنشور الثلاثاء، بدأت واشنطن والغرب مرحلة جديدة من الحرب المالية ضد روسيا والصين، معتبرةً أنه "تصعيد قوي لكنه محفوف بالمخاطر أيضاً، قد يؤدي إلى النتيجة التي يُعتقد أنها تسعى إليها روسيا والصين، وهي إنشاء نظام مالي بديل".
وعللت "فورين بوليسي" هذه المخاطر بأن الإجراءات غير المسبوقة التي اتُّخذت في قمة مجموعة السبع في يونيو/حزيران لتسليم أوكرانيا مليارات الدولارات من الأرباح المكتسبة من الأصول الروسية المجمدة، إلى جانب الإجراءات الجديدة ضد البنوك الصينية، قد تبدأ تقويض شرعية النظام المالي الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، حسب الخبراء، وهذا من شأنه أن يجعل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينج الذي يريد إنشاء نظام مالي بديل قائم على اليوان، "سعيدين للغاية في النهاية".
في وقت يشعر فيه عديد من الدول بالارتباك بشأن التعامل مع روسيا، ووقعت في فخ الديون المفروضة على الصين، تُرسِل إجراءات مجموعة السبع رسالة واضحة بأنه "ما كان يُعتبر مقدساً في عالم المال الدولي قد لا يكون كذلك بعد، فقد يرغب عديد من صناديق الثروة السيادية والبنوك المركزية والشركات والمستثمرين الأفراد، بخاصة الدول الأصغر في الجنوب العالمي الأكثر عرضة للعقوبات، في التحوط ضد الاستثمار الكامل في الحصص التي تعتمد على الدولار واليورو".
وقال ريان مارتينيز ميتشل، أستاذ القانون في جامعة هونغ كونغ الصينية، لـ"فورين بوليسي"، إن هذا القرار يعبر نهر روبيكون" (عبارة اصطلاحية تعني المرور إلى نقطة اللا عودة)، "بإضعاف قاعدة حصانة الدول السيادية للبنوك المركزية الأجنبية".
لكن يرى ميتشل أن "أي تحول بعيد عن النظام المالي العالمي القائم على الدولار الأمريكي ليس مرجَّحاً على المدى القريب، إلّا أن مثل هذه القرارات من المحتمَل أن تضيف إلى القاعدة الشعبية التي سترحب بهذا النوع من المستقبل".
من جهته قال هارولد جيمس، المؤرخ المالي في جامعة برينستون، إنه "كانت قوى كثيرة تضغط للبحث عن بدائل من الدولار الأمريكي، وهذه الخطوة ستعطي تلك الجهود دفعة إضافية".
وأضاف: "أعتقد أننا وصلنا إلى نقطة تحوُّل يتزامن فيها مصدران للقلق: الأول بشأن المسار المالي المحتمل للولايات المتحدة والعبء الضخم غير المستدام، والثاني يتعلق بمصادرة الأصول، مع احتمال تطبيق عقوبات ثانوية على البلدان التي هي في سلسلة توريد مع الصين ثم بشكل غير مباشر مع روسيا".
ويحذّر جيمس من أن "نقطة التحول" يمكن أن تأتي في شكل تحرُّك عديد من الدول، حتى حلفاء الولايات المتحدة، لنقل أصولها بعيداً عن الدولار واليورو.
ووفقاً لراغورامان راجان من جامعة شيكاغو، وهو محافظ سابق لبنك الاحتياطي الهندي، تشعر الدول بالقلق من فكرة أن احتياطيات البنك المركزي الروسي البالغة 300 مليار دولار لم يكن من الممكن الوصول إليها لأكثر من عامين، قائلاً: "بدأ بعض البنوك المركزية زيادة تنويع احتياطياتها نتيجة لذلك، بما في ذلك الذهب".
وقال جيمس: "إحدى العلامات التي أجدها ذات دلالة كبيرة هي كيف بدأت دول أوروبا الوسطى، مثل جمهورية التشيك وبولندا اللتين تشعران بقرب شديد من الولايات المتحدة ولم تكونا مهتمتين باحتياطيات الذهب عندما شعرتا بالأمان، بل في الواقع باعت جمهورية التشيك احتياطياتها من الذهب في يوم انضمامها إلى الناتو في مارس/آذار 1999، وهي الآن تشتري الآن كميات ذهب كبيرة".
في هذا السياق اقتبست المجلة من حوار بوتين مع مذيع الأخبار الأمريكي تاكر كارلسون في فبراير/شباط الماضي عندما قال مشيراً إلى الإسراف المالي لأمريكا، إن "قرار واشنطن باستخدام الدولار كأداة في صراع السياسة الخارجية هو واحد من أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها القيادة السياسية الأمريكية"، مؤكداً أنه "حتى حلفاء الولايات المتحدة يقلّصون الآن احتياطياتهم من الدولار". وفي نقطة أخرى حذّر بوتين الدول الأخرى من أنها "قد تكون التالية في صف مصادرة الولايات المتحدة والغرب".
ويرى التحليل أن "جني الأموال من أصول الدول الأخرى حتى الدول المعتدية مثل روسيا، هو انتهاك تامّ للمعايير العالمية ويُعَدّ سابقة محفوفة بالمخاطر".
وقال جون بيتمان، وهو زميل بارز في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي: "بمجرد أن تصبح عقوبة جديدة فعالة، يميل استخدامها إلى الانتشار".
ولم يتوقف زعماء مجموعة السبع عند هذا الحد، وأشاروا أيضاً إلى أنه يُنظَر في اتخاذ تدابير جديدة قد تؤدِّي إلى إخراج بكين تدريجياً من النظام المالي الدولي. وبينما قالوا في بيان إنهم "يدركون أهمية الصين في التجارة العالمية" وأكّدوا أنهم "لا يحاولون إيذاء الصين أو إحباط تنميتها الاقتصادية"، هدّدوا بشكل غير مباشر البنوك الصينية "والكيانات الأخرى في الصين" باتخاذ إجراءات "لتقييد الوصول إلى أنظمتنا المالية". وقد يصعّد ذلك الحرب والمخاطر التي يتعرض لها النظام كثيراً، وفق المجلة.
وقال هونغ تران، نائب مدير صندوق النقد الدولي السابق، في مقابلة أُجريَت معه في 21 يونيو/حزيران، إن "الصين تعمل بالفعل على عزل نفسها بهدوء عن الانتقام المالي بسبب دعمها لروسيا في العامين الماضيين. "كانت البنوك الصينية الكبرى حذرة للغاية حتى في تقليل تَعرُّضها وتعاملاتها مع روسيا. وبدلاً من ذلك، أُنشئَت مؤسسات أصغر ليس لها أي أعمال مع أي كيان أمريكي، للتعامل التجاري مع روسيا، بحيث تُسوَّى التجارة بين روسيا والصين بالرنمينبي (اليوان) والروبل.
ولكن الاستيلاء على تلك الأصول المصرفية كان يُنظَر إليه على أنه خطوة أبعد مما ينبغي، بخاصة من جانب الأوروبيين الذين قاوموا جهوداً قادها الكونغرس الأمريكي، وفي نهاية المطاف دعمتها إدارة بايدن لمتابعة الاستيلاء الكامل، وهذا يعني العبث بالنظام المالي الدولي نفسه، حسب "فورين بوليسي".
أما الصين وتهديدها بغزو أو حصار تايوان، فلفت تحليل المجلة إلى أنه "يمكن أن يعني هذا بداية نهاية النظام الاقتصادي العالمي، إلّا أن الرئيس الصيني شي جي بينغ يمكنه المقامرة بسهولة على أن الولايات المتحدة لن تجرؤ على أن تفعل بالصين ما تفعله بروسيا لهذا السبب بالضبط".
وإذا ردّت الولايات المتحدة والغرب على غزو أو حصار لتايوان بتجميد الأصول الصينية والاستفادة منها، فقد تكون النتيجة تجميد النظام المالي برُمَّته وتوجيه ضربة مدمرة إلى الاقتصاد العالمي.
ففي حالة روسيا، احتاجت واشنطن إلى إجراء مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لعدة أشهر لأن الغالبية العظمى من الأصول الروسية تُحفَظ في أوروبا، ولم يكن هناك سوى نحو 300 مليار دولار لتجميدها.
ولا ينطبق الأمر نفسه على الأصول الصينية، التي تُعتبر ضخمة ومنتشرة في جميع أنحاء العالم، وبموجب قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية، ستكون واشنطن قادرة على تجميد نحو 800 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية المملوكة بالكامل للصين بمفردها، وهذا مجرّد جزء من نحو 3 تريليونات دولار من الأصول السيادية المملوكة للصين في الخارج، لكن بكين يمكن أن تردّ بسهولة على هذا الاستثمار الغربي البالغ 6 تريليونات دولار تقريباً في الصين.
وتلفت "فورين بوليسي" إلى أن التكامل العميق بين الصين والغرب هو ما أدّى إلى تجنُّب كلا الطرفين الانفصال الكامل للاقتصادات، بما يعكس ما وصفه وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سامرز ذات مرة بـ"التوازن المالي للرعب".
لذلك "ستظهر مقاومة أكبر لفرض نطاق العقوبات التي فرضناها على روسيا لأن الاقتصادات الغربية أكثر تشابُكاً مع الصين مما كانت عليه مع روسيا" وفق وليام رينش وكيل وزارة التجارة الأمريكية السابق الذي يعمل الآن في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.