الماكينة الألمانية تتباطأ.. هل تعجز برلين عن مواجهة الركود الاقتصادي؟
دخل الاقتصاد الألماني في حالة ركود هي الأولى منذ جائحة كورونا عام 2020، وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا، في 25 من مايو/أيار الماضي، أن اقتصاد البلاد انكمش بشكل طفيف في الربع الأول من عام 2023 مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة.
حاويات متكدسة في محطة بميناء هامبورغ. ألمانياا / صورة: Reuters (Reuters)

دخل الاقتصاد الألماني في حالة ركود هي الأولى منذ جائحة كورونا عام 2020، وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا، في 25 من مايو/أيار الماضي، أن اقتصاد البلاد انكمش بشكل طفيف في الربع الأول من عام 2023 مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة.

وانخفض الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بنسبة 0.3٪ (بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار 2023)، ويأتي هذا بعد انخفاض بنسبة 0.5٪ في الربع الرابع من عام 2022 (بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول).

"إشارات سلبية مفاجئة"

ولا يزال التضخم يشكل عبئاً على الاقتصاد الألماني، إذ انعكس بشكل سلبي على استهلاك الأسر الذي تراجع 1.2% نتيجة التضخم الذي تشهده البلاد، وفق مكتب الإحصاء.

ورغم أن الاقتصاد الألماني بدا أكثر متانة مما كان متوقعاً بداية العام، وذلك بعد احتواء البلاد آثار أزمة الطاقة، وبفضل مساعدات هائلة واستخدام الغاز المسال بشكل متزايد وبدء انخفاض أسعار الغاز، إلّا أن التضخم الذي بلغ 7% أدى إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي الخاص والعام بشكل كبير.

وحسب ما نقلته وكالة "بلومبيرج" عن مكتب الإحصاء، فإن "إحجام الأسر عن الشراء كان واضحاً في مناطق عدة، إذ تنفق الأسر بشكل أقل على الأطعمة والمشروبات والملابس والأحذية وعلى المفروشات، كما اشتروا عدداً أقل من السيارات الكهربائية".

وكشف وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر عن أن بيانات الناتج المحلي الإجمالي الألماني أظهرت "إشارات سلبية بشكل مفاجئ"، مشيراً إلى أن الاقتصاد يفقد إمكانات النمو، عند مقارنة ألمانيا بالاقتصادات الأخرى عالية التطور.

بدوره قال المحلل في ديكا بنك (DekaBank) أندرياس شويرل، إن "المستهلك الألماني سقط على ركبتيه، تحت وطأة التضخم الهائل، مما أدى إلى جرّ الاقتصاد بأكمله إلى أسفل".

ورغم الضغوط التي تواجهها ألمانيا في ملف الطاقة، فإن المستشار الألماني أولاف شولتز، استبعد في يناير/كانون الثاني الماضي، دخول بلاده حالة الركود، وقال إنه "واثق من أن بلاده ستتجنب الركود هذا العام، ما يوفر الطمأنينة لأكبر اقتصاد في أوروبا".

وخلال مقابلة أجراها مع بلومبيرج، أبدى شولتز قناعته من أن ألمانيا لن تذهب إلى الركود، مشيراً إلى أن "تنويع إمدادات الغاز كان حاسماً في المساعدة على استمرار عمل الاقتصاد".

وتعتبر ألمانيا من أهم دول الاتحاد الأوروبي وأقواها من ناحية الاقتصاد، وحسب تقارير صحفية، يُعتبر هذا الركود سابقة منذ وباء كورونا الذي تسبب في تراجع إجمالي الناتج المحلي في الربعين الأول والثاني من 2020.

ويُعرّف أستاذ الاقتصاد ورئيس أكاديمية أمم للبحوث والتدريب، أحمد ذكرالله، الركود الاقتصادي بأنه مرور الاقتصاد بانكماش خلال ربعَين متتاليَين في السنة، وهو ما حصل في الاقتصاد الألماني الذي مرّ بفترة انكماش في الربع الحالي والسابق.

اختبارات قاسية

ويرى ذكرالله في حديثه لـTRT عربي، أن فترة الانكماش الاقتصادي في ألمانيا أتت نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، والتضخم والارتفاع الكبير في أسعار المواد بصفة عامة، إذ أدت هذه العوامل إلى خروج عديد من الاستثمارات من ألمانيا وتوقف كثير من الصناعات وإفلاس عديد من الشركات.

ويضيف أن فترة الركود تأتي مع استمرار البنك المركزي الأوروبي في رفع أسعار الفائدة، وبالتالي ألمانيا مثلها مثل عديد من الاقتصادات الأوروبية، عانت من الأسعار المرتفعة خلال الفترة الماضية.

وصرّحت الخبيرة في الاقتصاد الأوروبي في شركة الأبحاث "كابيتال إيكونوميكس" (Capital Economics)، فرانزيسكا بالماس، بأن "التوظيف في البلاد ارتفع في الربع الأول وتراجع التضخم، لكن أسعار الفائدة المرتفعة ستظل تؤثر على الإنفاق والاستثمار".

وأضافت لوكالة "أسوشيتد برس" بأن "ألمانيا شهدت ركوداً تقنياً، وكانت حتى الآن الأسوأ أداءً بين اقتصادات منطقة اليورو الرئيسية خلال الربعين الماضيين"، متنبئةً بمزيد من الضعف في المستقبل.

ويواجه الاقتصاد الألماني اختبارات قاسية، ففي الأول تسببت جائحة كورونا في خسائر فادحة، والآن يدفع تأثير الحرب بين روسيا وأوكرانيا الاقتصاد الألماني إلى حافة الهاوية.

وسبّب التضخم وارتفاع أسعار الطاقة وعقبات التوريد "عاصفة مثالية للاقتصاد" في ألمانيا، ووفق المختصين، فإن اقتصاد الدول يمرّ بحالات ارتفاع وانخفاض يُمكن أن تُلخص في أربع مراحل، وهي: النمو، الذروة الاقتصادية، الركود، ثم الكساد.

ويمكن أن يؤدي الركود في حال استمراره إلى فترات طويلة إلى أزمة اقتصادية ملموسة تتمثل في البطالة وارتفاع عدد حالات الإعسار، وتكدس البضائع في المستودعات، وأزمات مالية، وانهيارات سوق الأوراق المالية، وإخفاقات البنوك.

ويشير ذكرالله إلى أن ارتفاع التضخم وحدوث الانكماش في الربعين الأخيرين يعني أنه سيحدث انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي معدّل النمو، وهو ما سينعكس سلباً على شرائح المجتمع كافة، إذ ستنخفض القوة الشرائية للمجتمع، وترتفع معدّلات البطالة ويتراجع الإنفاق الاستهلاكي للأسر.

ويضيف أستاذ الاقتصاد: "إذا لم يكن للحكومة الألمانية القدرة على استخدام أدوات لتحجيم هذا الانكماش والركود الاقتصادي خلال الفترة القادمة، فإن ذلك سيؤدي إلى المزيد من الانكماش، لا سيما مع تراجع الإنفاق الاستهلاكي واستمرار التضخم بصورة كبيرة للغاية، وإن القادم لن يكون أفضل".

ويلفت إلى أن أحد الأسباب الرئيسة للركود في ألمانيا الانخفاض الكبير في قطاع صناعة السيارات التي تعتبر القطاع الرئيس للإنتاج الصناعي في البلاد، إذ تُظهر البيانات الألمانية أن هناك انخفاضاً في الطلبيات الجديدة على معظم المصانع الألمانية في كل القطاعات المختلفة.

برلين في مواجهة الركود

وتوقّعت بروكسل أواخر العام الماضي، أن أداء ألمانيا سيكون الأسوأ على مستوى التكتل، ورجّحت أن تسجل انكماشاً تصل نسبته إلى 0.6% خلال العام الحالي.

وقالت حينها المفوضية الأوروبية، إن "ازدياد ضبابية الوضع وارتفاع التكاليف يُتوقع أن يدخلا منطقة اليورو ومعظم بلدان التكتل في ركود في الفصل الأخير من 2022".

وأضافت أن "انكماش النشاط الاقتصادي يُتوقع أن يستمر في الربع الأول من 2023 وأن يعود النمو إلى أوروبا خلال الربيع".

وأكد مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي باولو جنتيلوني، أن "تداعيات أسعار الطاقة المرتفعة والتضخم الجامح بدأت تظهر الآن"، محذراً من "احتمال حدوث اضطرابات اقتصادية إضافية نتيجة الحرب الروسية لم ينته".

ووفق أستاذ الاقتصاد أحمد ذكرالله، فإن دول التكتل ما زالت منذ جائحة كورونا تعاني من هزات اقتصادية تزايدت حدتها بصورة كبيرة جداً ما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، وهذه العوامل أدت إلى ارتفاع تكاليف الطاقة، واضطرار البنك المركزي الأوروبي إلى اتخاذ خطوات رفع سعر الفائدة لتحجيم التضخم المستشري في القارة الأوروبية بصورة رئيسية.

ويوضح لـTRT عربي، أن "ألمانيا كانت في مُقدمة الاقتصاديات الأكثر تضرراً، لكن الاقتصاد الأوروبي بصورة عامة ليس بعيداً عن مثل هذه الأوضاع، ومن المتوقع أن تدخل منطقة اليورو بأكملها في ركود خلال الفصل الأخير من العام الحالي".

وانخفض التضخم عموماً في الاتحاد الأوروبي من 7% إلى 6.1%، وفق آخر أرقام نشرتها وكالة "أسوشيتد برس" عن وكالة الإحصاء في الاتحاد الأوروبي، في 1 يونيو/حزيران الحالي، لكن الأسعار لا تزال تشكل ضغطاً على المتسوقين الذين لم يروا بعد ارتياحاً حقيقياً فيما يدفعونه مقابل الغذاء والضروريات الأخرى.

وحول ذلك يقول أحمد ذكر الله: "للأسف البيانات السلبية هي السائدة الآن عن معظم الاقتصاد الألماني وعن معظم المحللين والخبراء في الداخل الألماني وأوروبا".

ويرى أستاذ الاقتصاد أن الحل يكمن في استخدام أدوات غير تقليدية لمواجهة التضخم الحاصل في ألمانيا ولمواجهة نقص الطلب، محلياً وخارجياً.

ويعتقد أن هناك أزمة مرتقبة في الطلب الخارجي، أما الطلب المحلي فيمكن للحكومة الألمانية أن ترفعه نحو الأعلى باستخدام أدوات السياسة المالية، كالتي جرى استخدامها بنجاعة من جانب الحكومة الألمانية أثناء فترة كورونا، لاسيما في الربع الثاني والثالث من عام 2020".

ويستدرك أحمد ذكرالله بالقول: "أما الطلب الخارجي فيتوقف على عديد من العوامل الخارجية التي لا يمكن لألمانيا التحكم فيها".

ويلفت إلى أن الحكومة الألمانية ما زالت لديها القدرة على تحجيم الآثار السلبية للركود الذي يحدث الآن والانطلاق مرة أخرى نحو نوع من أنواع التحفيز الاقتصادي، عبر استخدام أدواتها المحلية.

TRT عربي