المقابر الجماعية في غزة.. شاهد على تاريخ طويل من حروب الإبادة الإسرائيلية
خلال الأسبوع الماضي، أعلن الدفاع المدني في غزة اكتشاف ثلاث مقابر جماعية تضم مئات الجثامين في مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوبي القطاع، وقبلها بأسبوع اكتُشفت مقبرة أخرى في ساحة مستشفى الشفاء شمالي القطاع.
إدانات واسعة لإسرائيل بعد اكتشاف مئات الجثث في مقبرة جماعية بمستشفى ناصر في غزة / صورة: Reuters (Reuters)

منذ ما يزيد على نصف عام، يشن الاحتلال الإسرائيلي حرباً شرسة على قطاع غزة، يستخدم فيها كل الأساليب المجرَّمة دولياً من تجويع ممنهَج، واستهداف متعمَّد للصحفيين والأطباء، وغيرها من الجرائم، حتى وصل بهم الأمر إلى القتل الجماعي للمرضى في المستشفيات.

وخلال الأسبوع الماضي، أعلن الدفاع المدني في غزة اكتشاف ثلاث مقابر جماعية تضم مئات الجثامين في مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوبي القطاع، وقبلها بأسبوع اكتُشفت مقبرة أخرى في ساحة مستشفى الشفاء شمالي القطاع.

وأكد الدفاع المدني الفلسطيني في مؤتمر صحفي، الخميس 25 أبريل/نيسان، أن الجثامين المُنتشَلة منها التي يعود بعضها لأطفال، وتظهر عليها آثار التعذيب والدفن على قيد الحياة، دليل على الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية.

6 مقابر جماعية أقامها الاحتلال

كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة عن وجود 6 مقابر جماعية أقامها الاحتلال في المستشفيات منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت آخرها في مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوبي القطاع.

ويوضح مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، أن أول مقبرة جماعية اكتُشفت كانت في مستشفى كمال عدوان شمالي قطاع غزة، وانتُشل منها 29 شهيداً.

وفي حديثه مع TRT عربي يشير الثوابتة إلى اكتشافهم أيضاً مقبرتين جماعيتين في مجمع الشفاء الطبي؛ الأولى أمام مبنى الجراحات التخصصية، والأخرى أمام مبنى الكلى، انتُشل منها 33 جثماناً من الشهداء الذين أعدمهم الاحتلال الإسرائيلي.

ويضيف أن المقابر الثلاث الأخرى كانت في مجمع ناصر الطبي، لافتاً إلى أنه فُتح منها مقبرة واحدة فقط حتى الآن، انتُشل منها 392 شهيداً، أما المقبرتان المتبقيتان فسيجري فتحهما خلال المرحلة القادمة من أجل انتشال جثامين الشهداء ومحاولة التعرف عليها، ثم إعادة دفنها بطريقة سليمة وصحيحة قانونياً.

ويكشف مدير المكتب الإعلامي الحكومي بغزة عن أن مجموع عدد الشهداء المنتشَلين حتى الآن من المقابر الجماعية في القطاع وصل إلى 454 جثماناً.

وعن حالة الجثامين التي وُجدت في مجمع ناصر الطبي، يقول الثوابتة إنهم وجدوا جثثاً مربوطة اليدين والساقين والقدمين، وجثثاً بعضها بلا رؤوس أو أطراف، وبعضها بلا جلود، وأخرى يبدو عليها أن الاحتلال قد سرق أعضاءها الداخلية، مشيراً إلى أن "الجميع يعلم أن الاحتلال الإسرائيلي لديه بنك من الجلود، مساحته 170 متراً، وبالتالي يسرق أعضاء الشهداء من أجل تغذيته".

من جانبهم قال المسؤولون في الدفاع المدني إنهم لم يتمكنوا حتى الآن من التعرف إلا على 42% من الجثث، بسبب تغيير الاحتلال مظاهرها وتشويهها.

وإلى جانب هذا العدد من الجثامين المكتشَفة، تحدثت مصادر إلى وكالة الأنباء الفلسطينية عن وجود نحو 500 مفقود في مجزرة خان يونس، الذي انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي منها في 7 أبريل/نيسان الماضي، بعد نحو أربعة أشهر من عملية برِّية نفَّذها، وكذلك اختفاء نحو 2000 مواطن بعد انسحاب قوات الاحتلال من مناطق عدة في القطاع.

تعالٍ على القانون وتهرُّب من الجريمة

يُقرّ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن التمثيل بجثث الموتى جريمة حرب، ويدعو القانون الدولي والإنساني إلى احترام الموتى، ومنع العبث بالقبور وتشويه الجثامين، وضمان التعرف على رفاتها ودفنها بشكل لائق.

وحسب اتفاقية جنيف لعام 1949 التي وقَّعت عليها إسرائيل، فإن على أطراف النزاع اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع أي عبث بجثث الموتى، وفي عام 2002 في قضية تتعلق باستشهاد فلسطينيين في مخيم جنين وبموجب القانون الدولي، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن "وزارة الدفاع الإسرائيلية مسؤولة عن تحديد موقع وهوية جثث الشهداء الفلسطينيين ونقلهم، وألّا تُدفن في مقابر جماعية، بل تُسلم إلى السلطات الفلسطينية".

لكن ما فعله الاحتلال يضرب بكل تلك القوانين والأعراف عرض الحائط، وفي هذا السياق يقول الثوابتة: "عندما يتورط الاحتلال الإسرائيلي في كل مسألة جرى فيها فضحه أمام العالم، يُصدر بيانات كاذبة من أجل تضليل الرأي العام للتهرب من هذه الجريمة الواضحة ضد أبناء شعبنا الفلسطيني وضد جثامين الشهداء".

وبصدد تفنيد الادعاءات الكاذبة للاحتلال الذي أصدر بياناً يُنكر فيه أي صلة له بتلك المقابر، يقول مدير المكتب الإعلامي في غزة إنها "أكاذيب وتضليل للرأي العام، وقد وجدنا جثامين على عُمق مترين وثلاثة أمتار تحت سطح الأرض، وأبناء شعبنا الفلسطيني عندما يدفنون يكون الدفن على أقصى تقدير على بُعد متر واحد فقط، لأنها مقابر مؤقتة ثم تُنقل لاحقاً إلى أماكن أخرى".

ويتابع: "لا يمكن أن ينفّذ هذه العملية سوى الاحتلال الذي كان يحفر المقابر الجماعية بالجرافات والآليات الإسرائيلية، ثم يدفن هذه الجثامين ويهيل عليها الرمال في محاولة لإخفاء جريمته النكراء الذي يحاول نفيها الآن حين تكشفت للعالم".

ويؤكد الثوابتة أنهم يُحمّلون الاحتلال الإسرائيلي كامل المسؤولية عن هذه الجرائم، "أيضاً الإدارة الأمريكية التي تنخرط في حرب التطهير العرقي ضدّ الشعب الفلسطيني، وتُمدّ الاحتلال الإسرائيلي بالعتاد العسكري والطائرات والقنابل الذكية والصواريخ من أجل مسح مربعات سكنية بالكامل، وهذا ما جرى فعلياً".

ويستكمل: "كما نحمِّل المسؤولية للمجتمع الدولي الذي فشل أكثر من ثلاث مرات في إيقاف هذه الحرب ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة".

مناشدات بلا استجابة

بعد اكتشاف أكثر من مقبرة جماعية تزداد الدعوات المطالبة بضرورة إجراء تحقيق دولي، إذ أكد أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة في مؤتمر صحفي، الثلاثاء الماضي 30 أبريل/نيسان، على ضرورة السماح للمحققين الدوليين المستقلين بالوصول إلى هذه المواقع.

وقالت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين ومقرها لاهاي، في 24 أبريل/نيسان الماضي، التي ساعدت على التعرف على آلاف الضحايا المدفونين في مقابر جماعية خلال حروب البلقان في التسعينيات، إن "المقابر الجماعية تحتوي على أدلة حاسمة لإثبات الحقيقة، ويجب اتخاذ إجراءات فورية لحماية وتوثيق المواقع التي جرى الإبلاغ عنها في غزة".

ولفت المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى بروز ظاهرة المقابر الجماعية لأول مرة في تاريخ الصراع بهذا الحجم والشكل، إذ وثَّق المرصد أكثر من 140 مقبرة جماعية أو عشوائية أو مؤقتة، وفي حالات عديدة جرى توثيق حالات دفن نفّذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي لأشخاص أعدمتهم ميدانياً.

وأشار المرصد في بيان له في 23 أبريل/نيسان الماضي، إلى أن قوات الاحتلال نبشت عشرات المقابر وأخضعت مئات الجثث لتحليل الجينات (DNA)، وأخفت بعضها من دون تقديم أي معلومات عن الضحايا.

وطالب "الأورومتوسطي" بتحرك دولي عاجل بشأن المقابر الجماعية في قطاع غزة، مؤكداً أن "الجثث المنتشَلة متحللة وبعضها أشلاء، بسبب دهسها بالجرافات الإسرائيلية".

من جانبه أكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، وجود حاجة إلى إجراء تحقيق دولي في المقابر الجماعية، "وليس تحقيقاً إسرائيلياً، نظراً للمناخ السائد للإفلات من العقاب".

بدورها أكدت منظمة العفو الدولية أن الاكتشاف "المروّع" للمقابر الجماعية في قطاع غزة يستدعي "الحاجة الملحّة للحفاظ على الأدلة وضمان الوصول الفوري" لمحققي حقوق الإنسان إلى القطاع.

بدوره صرّح مدير المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة، قائلاً: "نطالب كل دول العالم الحر والمنظمات الحقوقية بملاحقة الاحتلال الإسرائيلي، وجلبه في كل المحاكم الدولية من أجل محاكمته على الفظائع والجرائم التي ارتكبها في قطاع غزة، واعتقال قادة الاحتلال كونهم مجرمي حرب، وهم المسؤولون عن هذه المجازر والجرائم الدولية".

وشدد الثوابتة على أهمية فتح تحقيق دولي مستقل في هذه الجرائم في إطار إثبات هذه الإبادة الجماعية من الناحية القانونية الدولية على الاحتلال الإسرائيلي، مؤكداً أنهم يطالبون بزوال هذا الاحتلال عن أرضهم الفلسطينية.

المقابر الجماعية.. جرائم متكررة

قبل مستشفيَي ناصر والشفاء، عُثر في يناير/كانون الثاني الماضي على مقبرة جماعية تضم 30 جثماناً، مكبّلي الأيدي ومعصوبي الأعين، في إحدى مدارس بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ما يشير إلى اعتقالهم قبل أن يعدمهم الاحتلال الإسرائيلي ميدانياً ويدفن جثثهم.

والعام الماضي وبعد 75 عاماً على تنفيذها، اكتُشفت المقبرة الجماعية الناتجة عن مجزرة الطنطورة التي ارتُكبت في مايو/أيار 1948، أهم الجرائم التي مورست بحق الفلسطينيين، إذ احتلت "العصابات الصهيونية" القرية، وقصفوها بعنف، وجرى تجميع الرجال وإطلاق النار عليهم بشكل جماعي، ثم إلقاؤهم في حفر جماعية، كما أجبروا عدداً من السكان على حفر خنادق من أجل إعدامهم فيها.

وبعد نحو عام ونصف من التحقيقات المكثفة التي أجراها مركز "عدالة" لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، ولجنة من أهالي الطنطورة ومؤسسة "فروزنيك أركيتكشر" الدولية، جرى التعرف على أربع مقابر جماعية نتجت عن تلك المجزرة، التي وصل عدد ضحاياها إلى نحو 280 شهيداً.

وفي عام 2013 وفي أثناء عمليات الترميم داخل مقبرة "الكزخانة" التاريخية في يافا، جرى الكشف مصادفةً عن 6 مقابر جماعية، تضم مئات الرفات والهياكل العظمية لشهداء قُتلوا خلال حرب 1948، وثورة 1936.

وعلى صعيد آخر وفي عام 2022، كشف تحقيق إعلامي إسرائيلي عن مقبرة جماعية لنحو 80 جندياً مصرياً تعود إلى حرب 1967، بينهم أكثر من 20 جندياً أحرقهم جيش الاحتلال الإسرائيلي وهم أحياء، ودفنهم في موقع أصبح الآن مرآب متنزه بالقرب من اللطرون، غربي مدينة القدس.

ويكشف ما يجري الآن في قطاع غزة عن أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال مستمراً في إجرامه الذي نشأ عليه منذ عقود من دون أي تغيير أو رادع.

TRT عربي