ووفق ما نشرته جريدة وول ستريت جورنال، ذكر مكتب الإحصاء الألماني (Destatis) أمس الخميس، أن الطلبيات انخفضت بنسبة 0.2% في أبريل/نيسان المنصرم مقارنة بالشهر الذي سبقه، وهو ما يخالف توقعات الاقتصاديين التي كانت تشير إلى ارتفاع بنسبة 0.6%.
وجاء هذا الانخفاض بعد تراجع الطلبيات بنسبة 0.8% في مارس/آذار الماضي، وهو أكثر من الانخفاض الذي نُشر في البداية بنسبة 0.4%.
انتكاسات متتالية
وتعود الانتكاسة الاخيرة في القطاع الصناعي الألماني إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، أهمها التراجع الكبير في الطلبيات الجديدة على الطائرات والقطارات والسفن، التي تقول بيانات مكتب الإحصاء الألماني إنها ليست حدثاً عرضياً، بل جزء من اتجاه عام شهدته الأشهر الماضية، لأنها متراجعة منذ ديسمبر/كانون الأول 2023 بنسبة 5.4%، وزاد هذا التراجع 15% في أبريل/ نيسان الماضي.
إضافة إلى ذلك، شهدت الطلبيات على الأجهزة الإلكترونية والمعدات والآلات انخفاضاً ملحوظاً، وهذه العوامل مجتمعة أسهمت في تراجع الطلبيات الصناعية عموماً، حسب تقرير وول ستريت جورنال.
على الجانب الآخر، تشير الصحيفة الأمريكية إلى أن قطاع السيارات الرئيسي في ألمانيا شهد زيادة في الطلبيات بنسبة 4.1%، مع ذلك تراجعت الطلبيات المحلية 0.3%، فيما انخفضت الطلبيات الأجنبية 0.1% فقط.
تأتي هذه الانتكاسة في وقت يعاني فيه أكبر اقتصاد في أوروبا تباطؤ النمو، على الرغم من الجهود المبذولة للتعافي من تداعيات جائحة كورونا وأزمات الإمداد العالمية.
من جهة أخرى، يعاني القطاع الصناعي تأثيرات سلبية ناجمة عن الأزمات العالمية، مثل نقص المواد الخام وارتفاع تكاليف الشحن والإمداد، التي عطّلَت سلاسل التوريد وأخّرَت الإنتاج.
كذلك تلقي الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة بظلالها على الاقتصاد الأوروبي، إذ تزيد حالة عدم اليقين وتؤثّر سلباً في الاستثمارات الأجنبية والمحلية.
ويؤثّر التراجع في القطاع الصناعي مباشرةً فيعلى الاقتصاد الألماني، الذي يعتمد بشدة على الصناعة محركاً رئيسياً للنمو، فعلى الرغم من أن برلين سجلت نمواً اقتصادياً بنسبة 0.2% في الربع الأول من العام الحالي، لا يعكس هذا النمو تحسُّناً حقيقياً في النشاط الاقتصادي، بل هو نتيجة زيادة مؤقتة في الإنتاج الصناعي بنسبة 1.0% في الفترة من يناير/كانون الأول إلى مارس/آذار.
هذا التردِّي المستمرّ في الطلبيات الصناعية ينعكس أيضاً على سوق العمل، إذ يزيد الضغوط على الشركات المصنّعة ويجبرها على تقليص التوظيف أو حتى تسريح العمال، ما يؤثّر مباشرةً في القدرة الشرائية للمستهلكين.
أزمات اقتصادية لا تنتهي
قال البنك المركزي الألماني اليوم الجمعة، إن التضخم الألماني أثبت أنه عنيد بسبب الارتفاع القوي المستمرّ في الأجور، وأشار إلى أنه رغم انخفاض التضخم من رقمين في أواخر عام 2022، فإن "الميل الأخير" من مكافحة التضخم بدأ يثبت صعوبة خاصة.
ويتوقع البنك أن يبلغ التضخم في ألمانيا 2.8% هذا العام، بعد توقُّع 2.7% قبل ستة أشهر، و2.7% في 2025، مقابل 2.5% في وقت سابق.
وقبل ثلاثة أشهر من الآن خفض معهد "إيفو" للبحوث الاقتصادية توقعاته لنمو الاقتصاد الألماني، مقارنة بتوقعاته السابقة خلال العام الجاري، نتيجة تأخُّر تعافي الصادرات، بجانب الضعف الكبير في الاستثمارات.
وتوقع المعهد الألماني أن يحقق أكبر اقتصاد في أوروبا نموّاً بنسبة 0.2 % خلال العام الحالي، بعد أن كانت التوقعات في ديسمبر/كانون الأول الماضي تشير إلى أن هذه النسبة ستبلغ 0.9 %، فيما توقَّع البنك المركزي الألماني أن يبلغ النمو 0.3% فقط هذا العام.
وتشير التقارير الاقتصادية على مدى السنوات السابقة إلى أن تلك الانتكاسة الاقتصادية ليست جديدة في ألمانيا، ففي أغسطس/آب العام الماضي قالت وزارة الاقتصاد الألمانية في تقريرها الشهري، إن من غير المرجح أن يشهد الاقتصاد الألماني انتعاشاً مستداماً في الأشهر المقبلة، بناءً على مؤشرات مبكّرة مثل الطلبيات الجديدة ومناخ الأعمال، حسب وكالة "رويترز".
ووفقاً للأرقام الصادرة عن صندوق النقد الدولي أواخر يوليو/تموز 2023، يُتوقع أن يستمر الناتج الإجمالي لألمانيا في الهبوط، وقبلها بثلاثة أشهر كشفت أرقام مكتب الإحصاء الألماني أن اقتصاد البلاد دخل في حالة انكماش تقني خلال الفصلين الماضيين من العام الماضي، مع تسجيل تراجع في إجمالي الناتج المحلي نسبته 0.3% في المدة بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار 2023.
وانعكست تلك الأرقام على الشركات الألمانية، إذ أعلن كثير منها الإفلاس، وحسب ما أعلنه المكتب الفيدرالي للإحصاء، فإنه في شهر يوليو/تموز من العام الماضي وحده، ارتفعت نسبة الشركات التي تقدمت بطلب للبدء بإجراءات إعلان الإفلاس بنحو 23.8% مقارنة بالشهر نفسه من عام 2022.
لماذا يستمر ركود الاقتصاد الألماني؟
لم يكد الاقتصاد الألماني يتعافى بعد وباء كوفيد-19 الذي تسبب في تراجع إجمالي الناتج المحلي في الربعين الأول والثاني من 2020، حتى تبعته هزة الحرب الروسية-الأوكرانية وأزمة الطاقة التي نتجت عنها.
وعلى الرغم من انخفاض أسعار الطاقة في ألمانيا، في العام الماضي، وكذلك انخفاض مستويات التضخم بشكل طفيف، تبقى هذه المستويات مرتفعة بشكل كبير مقارنة بالسنوات السابقة، ما يعوق نموّ الإنفاق الداخلي، ومعه عجلة الاقتصاد الألماني كله.
ورجع تقرير لجريدة "وول ستريت جورنال" استمرار ركود الاقتصاد الألماني إلى النموذج الاقتصادي الذي تتبعه البلاد، المعتمد دائماً على السوق الخارجية، "ما جعل أكبر اقتصاد في أوروبا هشّاً أمام الصدمات العالمية خلال السنوات الماضية".
ونقلت الجريدة الأمريكية عن كبير الاقتصاديين في مجموعة ING المالية كارستن برزيسكي قوله: "على مدار العشرين عاماً الماضية، كانت ألمانيا دائماً ما تحظى بأبٍ راعٍ في الخارج: الصين ومنطقة اليورو ثم الولايات المتحدة".
وانخفض الطلب الخارجي على الصناعات الألمانية خلال السنوات الأربع الأخيرة بسبب سياسات الإغلاق عقب الأزمة العالمية لوباء كورونا، بالإضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية.
وتتوقع المفوضية الاوروبية نموّاً بنسبة 0.1% في ألمانيا لعام 2025، وهو أقلّ بكثير من متوسط منطقة اليورو البالغ 0.8%، وقالت اللجنة التابعة للمفوضية إن صناعة الصادرات الألمانية في السنوات الاخيرة "شهدت تباطؤاً ملحوظاً، وهو ما يُعَدّ سببا رئيسياً في الضعف الاقتصادي الحالي".
وعلى الرغم من أن تعافي التجارة العالمية من شأنه أن يساهم في انتعاش الصادرات عام 2024، توقع المجلس انخفاضاً بنسبة 0.3% في الصادرات هذا العام.