تعليق "بارخان" وإيقاف "سنغاريس".. هل خسرت فرنسا رهاناتها الإفريقيَّة؟
يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعيش الآن أحلك أيامه، بعين على الرئاسيات القادمة التي تنافسه فيها زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان بقوة، وعين أخرى على النفوذ التاريخي لفرنسا وهو يتهاوى أمام عينيه.
إيمانويل ماكرون يواجه صعوبات كبيرة في الحفاظ على النفوذ الفرنسي بإفريقيا (Reuters)

هو شهر خصه ماكرون للقارة الإفريقية، في خطوة لإظهار نفوذه في إفريقيَا، أتى على ما يبدو مخيِّباً لآمال الرئيس الفرنسي. ففي آخر تطورات موقف بلاده من الانقلاب الأخير في مالي، أعلنت باريس ليلة أمس عن تعليقها العمليات العسكرية المشتركة هناك، وعدم استئنافها إيَّاها حتى تتوفَّر "ضمانات" بعودة الحكم المدني إلى البلاد.

فيما روسيا التي تتحين فرصة توسيع نفوذها الإفريقي، تصوب نظرها ناحية الدولة إلى باماكو، ومنها إلى منطقة الساحل التي تعيث فيها الجماعات المسلَّحة وتتفشى وسطها الانقلابات، بعد أن أرغمت ماكرون على سحب قواته من إفريقيا الوسطى موجهة ضربة قاسية للنفوذ الفرنسي الإفريقي في أكثر مواقعه أهميَّة. ما يعيد طرح السؤال: هل خسرت فرنسا رهاناتها الإفريقيَّة؟

تعليقُ بارخان..

في ردِّ فعلٍ لها على الانقلاب بمالي أعلنت فرنسا، مساء الخميس، تعليق العمليات العسكرية المشتركة التي تقودها بالبلاد. مشدِّدة على أن القرار سيظل سارياً حتى تتلقى ضمانات بشأن عودة الحكم المدني في مالي.

العمليات العسكريَّة المشتركة، أو ما سمِّي بـ"عمليَّة بارخان" التي تقودها القوات الفرنسية منذ أغسطس/آب 2014، باشتراك قوات كل من مالي وتشاد وموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو لمحاربة المسلحين في منطقة الساحل الإفريقي. قالت في شأنها وزارة الدفاع الفرنسية في إعلانها: "في انتظار هذه الضمانات قررت فرنسا تعليق العمليات العسكرية المشتركة مع القوات المالية كإجراء مؤقت".

القرار الفرنسي الأخير يأتي بعدَ تهديد ماكرون سابقاً بسحب قواته من الدولة الإفريقيَّة. وقال في حوارٍ له الشهرَ الماضي، مع أسبوعية Le Journal de Dimanche، إنه أعلم زعماء إقليميين بأن "فرنسا لن تدعم الدول التي ليس لديها شرعية أو انتقال ديمقراطي للسلطة" على حد تعبيره. وأتبع بأن "فرنسا ليس لديها نية بالإبقاء على قواتها في إفريقيا إلى الأبد".

هذا وقالت وزارة الدفاع الفرنسية في بيانها ليوم أمس بأن كلاً من سيدياو (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) والاتحاد الإفريقي قد حددا "إطار العمل للانتقال السياسي في مالي".

بسريَّة تامة، ماكرون يسحب جنوده من بانغي

وقبل أحداث مالي، كان انتخاب فوستين أركانج تواديرا رئيساً لجمهورية إفريقيا الوسطى لولاية ثانية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ضربة قاسية على باريس التي تفقد نفوذها بالتدريج على البلاد الأكثر فقراً في إفريقيا، والأكثر دراً للثروات للبنك المركزي الفرنسي.

توديرا، الموالي لموسكو، جمعه في أبريل/نيسان الماضي اتصالٌ هاتفي بماكرون، الظاهر أنه لم يأتِ بالمطلق على هوى الرئيس الفرنسي، يكشف موقع Médiapart في تحقيق له، ومن ذلك يعلل قرار الإيليزيه فيما بعد تجميد الدعم الاقتصادي لبانغي، كما إلغاء أي تعاون عسكري مع الدولة الإفريقيَّة التي تتهدد شعبها أعمال العنف ودموية المتمرِّدين: "إنها تبعات أخطاء تواديرا" برر الإيليزيه.

في هذا السياق، يورد الموقع الفرنسي كشف محيط ماكرون عن أحد أسباب الغضبة الرئاسيَّة، "باريس ترى ظلَّ روسيا يغزو ببطء البلاد، ووجودهم أصبح أكثر فأكثر وضوحاً، ومن الواضح أنهم يلعبون دوراً في الحملة الإعلامية المعادية لفرنسا في إفريقيا الوسطى". ماكرون الآخر أتى على ذكر ذلك في حواره مع Le Journal de Dimanche المشار إليه سابقاً، بل وأكثر، قال: "الخطاب المعادي لفرنسا شرعن وجود المرتزقة الروس في أعلى هرم الدولة". فيما يكشف التحقيق ذاته بأنه، وفي سريَّة، غادرت قوات فرنسية إفريقيا الوسطى نحو باريس.

في السياق ذاته احتفت روسيا بإمكانية نقل تجربتها في إفريقيا الوسطى إلى مالي، في ما وصفته بـ"نجاح روسيا بإرساء الاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى واختراقها النفوذ التاريخي لفرنسا في القارة الإفريقية". هكذا قال لسان حال موسكو، عبر وكالة سبوتنيك للأنباء، إمكانية تغيير الاستعمار القديم في إفريقيا بآخر جديد، في ما أشارت إليه بـ" تغييرات كبيرة في المزاج الشعبي في مالي خصوصاً بشأن الوجود العسكري لفرنسا وكيفية إدارتها للأزمة، وباتت بالتالي تفكر جدياً بمطالبة روسيا بمساعدة دولتهم، وأن تحل مكان باريس".

ماكرون رجل الرهانات الخاسرة

من المؤكد أن ماكرون يعيش الآن أحلك أيامه، بعين على الرئاسيات القادمة وعين أخرى على النفوذ التاريخي لفرنسا وهو يتهاوى أمام عينيه. هو الذي كان قد رصد الشهر لجولة في إفريقيا، من أجل "إظهار نفوذه وتحسين صورة بلاده" كما أوردت وكالة بلومبيرغ قبل أيام. قبل أن ينزل عليه انقلاب مالي كـ"تذكير مخجل باضمحلال النفوذ الفرنسي على إفريقيا"، يورد المصدر ذاته.

ويضيف أن "ماكرون كان ينوي استعراض قوته باستخدام ديبلوماسيَّة الأمر الواقع، حيث اعترافه خلال زيارته لرواندا بمسؤوليَّة بلاده في الإبادة الجماعية التي وقعت بها سنة 1994، غير أن انقلاب مالي حجب الإشعاع الذي كان ينوي استعراضه، معوِّضَاً إياه بانشغالات هامة حول المسؤوليات التاريخية إزاء إرثه الاستعماري".

ولا تقف انشغالات ماكرون عند مالي فحسب، يضيف المقال، بل يمكن لارتدادات ذلك الانقلاب أن تعم دول الساحل بأسرها، بما فيها تشاد التي تعيش هي الأخرى على صفيح ساخن. حيث لا زالت حركة التمرد التي أودت بحياة الرئيس التشادي، إدريس ديبي، قبل شهر لم تخمد بعد، إضافة أن البلاد، كما هو الحال في مالي، يقودها مجلس عسكري على رأسه أحمد كاكا نجل ديبي، مع ارتفاع احتجاجات شعبية كبيرة ورفض لعملية توريث السلطة لابنه عقب مقتل الأب على يد المتمرِّدين. كما أن تشاد هي الأخرى تحضِّر لانتخابات رئاسيَّة بعد 18، تختم بلومبيرغ مقالها "على الرئيس الفرنسي أن يتمنى الآن عدم تقليد رئيس المجلس العسكري التشادي لنظيره الكولونيل المالي".

TRT عربي