دول الساحل الخمس.. كيف تفقد فرنسا سيطرتها في إفريقيا؟
''المصائب'' القادمة إلى فرنسا من دول الساحل تتوالى ولا تأتي فرادى، فبعد مالي وخروج فرنسا منها بفشل كبير، أصبح النفوذ الفرنسي في بوركينا فاسو التي شهدت انقلابين عسكريين مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
جانب من المظاهرات المناوئة لفرنسا / صورة: AFP (AFP)

رمال الصحراء تتحرك تحت أقدام القوات الفرنسية في منطقة الساحل، مظاهرات في بوركينا فاسو مناهضة لفرنسا ووجودها العسكري في البلاد، توتر دبلوماسي ومهلة شهر تمنحها الحكومة العسكرية في واغادوغو لباريس لسحب قواتها من البلاد والإليزيه يستجيب.

''المصائب'' القادمة إلى فرنسا من دول الساحل تتوالى ولا تأتي فرادى، فبعد مالي وخروج فرنسا منها بفشل كبير، أصبح النفوذ الفرنسي في بوركينا فاسو التي شهدت انقلابين عسكريين مهدداً أكثر من أي وقت مضى.

بعد زهاء سنة من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرار الانسحاب من مالي، وبعد أسابيع من الانسحاب الكلي وانتهاء عملية برخان العسكرية التي بدأت في صائفة 2014 لمكافحة ''الإرهاب'' في منطقة الساحل، وجدت فرنسا نفسها مجبرة هذه المرة على الانسحاب من دولة بوركينا فاسو التي أمهلتها شهراً واحداً لسحب 400 جندي من القوات الفرنسية الخاصة من البلاد. وتأتي هذه التطورات في سياق تنامي الشعور المناهض لفرنسا في دول الساحل.

يذكر أنه في 2014 بدأت عملية ''برخان'' العسكرية بهدف ''مكافحة التمرد والإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي''، وهي تتألف من زهاء 5500 جندي. وقد جرى تشكيل العملية مع خمسة بلدان، والمستعمرات الفرنسية السابقة، التي تمتد في منطقة الساحل الإفريقي: بوركينا فاسو، تشاد، مالي، موريتانيا والنيجر. وخلفت عملية سيرفال التي أطلقها الرئيس السابق فرانسوا هولاند وحققت نجاحات في المنطقة. وفي الساحل، نجد أيضاً مركز قيادة "مهمة سابر" قرب واغادوغو في بوركينا فاسو. ومنذ 2009، جرى نشر ما بين 350 إلى 400 جندي من القوات الفرنسية الخاصة.

يرى خبراء أن فرنسا لم تحقق أي نتائج في المنطقة وأصبح وجودها غير مرغوب به بشكل متزايد، بخاصة أن عدد الهجمات الإرهابية قد زاد بشكل مطرد، وكذلك عدد المدنيين المنضمين إلى الجماعات المسلحة، ويؤكدان أن فرنسا نتيجة لذلك قد فقدت هيبتها كقوة عسكرية بإمكانها حل مشكلة الإرهاب، وعليها إذن المغادرة إذا لم تحقق ذلك.

النكسات ''الدرامية'' لفرنسا في الساحل لم تتوقف بالانسحاب العسكري من مالي وقطع العلاقات الدبلوماسية بطرد سفيرها من باماكو، فالسيناريو نفسه قد تكرر في المنطقة ذاتها، حيث تلقت باريس صفعة جديدة بإعلان المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو طرد القوات الفرنسية من البلاد في خطوة جديدة تؤكد انهيار نفوذ القوة الاستعمارية السابقة في الساحل وتزايدت مشاعر العداء لها.

تشير بيانات منظمات دولية، إلى تزايد مطرد في عدد ضحايا العمليات المسلحة في منطقة الساحل، وكان عدد القتلى من المدنيين يقتصر على المئات بين 2012 و2017، غير أن الأمر تسارع فجأة بعد ذلك، وقالت منظمة أكليد غير الحكومية أن عدد القتلى المدنيين سنوياً تجاوز عتبة الألف منذ سنة 2018. وتجاوز الألفين عام 2021. وأحصت "أكليد" بالإجمال مقتل 11276 مدنياً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو منذ اندلاع النزاع عام 2012 وحتى يونيو/حزيران 2022.

اعتبر الباحث السياسي الفرنسي ريمي كارايول، صاحب كتاب "سراب الساحل''، في حوار مع صحيفة ''L'OBS'' الفرنسية، أن ماكرون تأكد بعد انتخابه سنة 2017 أن تحقيق النصر مستحيل في مالي وبالتالي بات يطلب فقط تحقيق نتائج نوعية لأجل الخروج من المنطقة، وهو ما دفع الجيش الفرنسي إلى التحالف مع منظمات مسلحة محلية تعمل على محاربة "التنظيمات الجهادية" مما تسبب في ارتكاب جرائم كثيرة وثقتها الأمم المتحدة، مما زاد الوضع تعقيداً بالنسبة إلى فرنسا.

وأقر الكاتب ''كارايول'' بأنّ علاقة عمليات فرنسا العسكرية في الساحل والفكر الاستعماري وثيقة، حيث إن المؤسسة العسكرية الفرنسة بنت تصورها للعمليات على إدامة الوجود الفرنسي في المنطقة عبر خلق مشاريع اقتصادية واجتماعية تحبّب الناس بفرنسا والفرنسيين، وتضمن حماية المصالح الفرنسية''، لكن فرنسا ''لم تجن سوى النتائج العكسية ودفعت ''ثمن رغبتها في الحفاظ على وجود سياسي وعسكري قوي للغاية في مجالها السابق''، وفق تعبير ''جان هيرفي جيزيكيل'' مدير مشروع الساحل في مجموعة الأزمات الدولية.

يرى ''صديق أبا'' الكاتب والصحفي الفرنسي المختص في الشأن الإفريقي، أن منطقة الساحل هي ''أفغانستان'' بالنسبة لفرنسا، حيث لم تتحقق الأهداف المعلنة منذ البداية، ويشير إلى فشل عملية برخان العسكرية بعد نجاح نسبي لعملية سيرفال، حيث انتشر التهديد الإرهابي وجرى تصديره بشكل أساسي من مالي إلى بوركينا فاسو والنيجر. كما أصبحت دول خليج غينيا وساحل العاج وبنين وتوغو مهددة أيضاً وتصاعد العنف ضد المدنيين.

ويذهب الكاتب إلى أبعد من الفشل ويشير إلى نتائج عكسية للوجود الفرنسي في الساحل ومالي على وجه الخصوص، وقال في حوار مع صحيفة ''Le Point'' الفرنسية إن الظهور الأخير لـ''إياد أغ غالي'' زعيم تنظيم القاعدة فرع مالي، عبر مقطع مصور، غايته إثبات أنّ التنظيم يتحرك بسهولة في المنطقة وأنه يلعب دور الحامي للسكان المدنيين ولا سيما الطوارق وأراضيهم.

ومؤخراً، ظهر ''إياد أغ غالي'' زعيم تنظيم القاعدة فرع مالي، في منطقة ميناكا الحدودية مع النيجر، مع عدد من أعيان الطوارق الذين يستوطنون الصحراء الكبرى وهم يبايعونه. وهي المرة الأولى التي يظهر فيها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2020. وقد وُجد في هذه المنطقة مقر قيادة مجموعة "تاكوبا" الفرنسية-التشيكية، إلى جانب قوة الرد السريع المحمولة على المروحيات والتابعة للسويد. هذا الظهور اعتبره الكاتب ''صديق أبّا'' جزءاً من تسريع عملية التوطين الجارية داخل الجماعات الإرهابية الموجودة في الساحل. وهذا يعني أن سكان الساحل أنفسهم هم من يأخذون زمام المبادرة.

فرنسـا في ضعف كبير

المحلل السياسي غازي معلى، قال في حديث لـ''TRTعربي''، إن ''فرنسا الآن في ضعف كبير جداً وهي تفقد مناطق نفوذ مهمة جداً في إفريقيا وبخاصة بمنطقة الساحل، إذ كانت مالي أول نقطة تفقدها فرنسا''.

وأوضح معلى، أن ''ذلك يعود إلى أسباب عديدة أهمها إدارة الأزمة في مالي التي كانت سيئة جداً بالإضافة إلى تدخل ''الفاغنر''. فالروس كان لهم تأثير كبير في إخراج الفرنسيين من المنطقة. ولا ننسى أيضا حتى حلفاء فرنسا كالناتو، حيث لم يساعدوا فرنسا كثيراً على البقاء وكأنهم عجلوا برحيلها. بالإضافة إلى الإرث الاستعماري وعدم مراجعة فرنسا لبعض أساليب العمل والتعامل مع الأفارقة''.

وحول ما إذا كانت لروسيا مطامع لأن تحل مكان الوجود الفرنسي في منطقة الساحل، اعتبر معلى أنّ ''روسيا ليست لديها المقومات لأن تكون هي البديل لفرنسا في المنطقة، لكن ستكون لديها نفوذ في بعض المناطق وأثبتت قدرتها على ذلك إذا ما تحالفت مع قوى أخرى وأكبر. دليل ذلك التحالف الروسي الصيني في إفريقيا الوسطى الذي تمكن من إخراج فرنسا من هذه الدولة نهائياً وأخذ مكانها''.

واستبعد غازي معلى أن تتكرر هذه التجربة (إفريقيا الوسطى) في دولة أخرى قائلاً: ''هذا صعب لأن الظروف في روسيا صعبة بسبب الحرب في أوكرانيا، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتركها تتغلغل كما تشاء في المنطقة''.

وخلص المتحدث إلى القول إن ''عملية برخان، فشلت لأن الوضع الآن في مالي ليس كما كان مرسوماً له في بداية العملية، عندما كانت فرنسا تنسق مع الجزائر لمكافحة الإرهاب. فطول المدة لم يأت بالنتائج المرجوة منها مئة بالمئة".

الباحث في الشؤون السياسية الأكاديمي أيمن البوغانمي، قال إن ''الوضع الفرنسي في إفريقيا عموماً صعب. أولاً هناك عبء تاريخي يتمثل في عبء السمعة السيئة التي تحملها الشعوب الإفريقية لوجود فرنسا وتأثيرها في صناعة القرار فيها، فهذه الشعوب تعتبر أن فرنسا مسؤولة عن فشل الأنظمة التي حكمتها في مالي أو بوركينا فاسو أو غيرها من الدول أي أن هناك عبئاً ثقيلاً''.

وأضاف البوغانمي في حديثه مع TRT عربي ''هناك، على المدى المتوسط، نوع من الفشل في ما يسمى بمكافحة الإرهاب. وجود فرنسا تحت شعار مكافحة الإرهاب على فترات طويلة يجعل من السهل تصور أن هذه القوى الأجنبية قوى مفتعلة في الحقيقة، وتكثر الأخطاء وتغيب النتائج وحتى الإرهاب يتصاعد بحكم رد الفعل تجاه هذا الوجود الأجنبي''.

وتابع: ''إذن، على المدى البعيد، هناك العبء التاريخي وعلى المدى المتوسط هناك الفشل في مسألة مكافحة الإرهاب، أما على المدى القصير فهناك إغراء تعويض الوجود الفرنسي بالوجود الروسي بمعنى أن روسيا أصبحت لديها ذراع فاغنر التي تقدم نفسها للأنظمة السياسية الحاكمة في هذه البلدان على أنها تملك من القوة ما يمكنها من تأمين هذه الأنظمة وأن توفر لها الخدمات التي كانت تلجأ فيها إلى المستعمر الفرنسي السابق. هذا الإغراء الذي يقدمه ذراع روسيا (فاغنر) يغري الكثيرين في هذه البلدان بخاصة التي شهدت انقلابات عسكرية''.

وأشار البوغانمي، إلى أن "قوات فاغنر هي الأكثر تفهماً لتجاوزات هذه الأنظمة وأقل محاسبة لها وهي ليست تحت ضغط أو محاسبة ديمقراطية في بلدها، أي أنها تتمتع بمجال من الحرية وهو ما يغري أنظمة الحكم في هذه الدول لاستغلالها حين تحتاج إلى القمع أو تجاوز السلطة''.

وأردف ''فرنسا تخسر الكثير من تأثيرها على دول هذه المنطقة وثمة منافسة كبيرة مع روسيا والصين ولكن أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر أن فرنسا لم تعد جديرة بالثقة في هذه المناطق. هناك إمكانية أن المنافسة قد تتزايد بين القوى العظمى والنتيجة ستتحدد تدريجياً بمستقبل روسيا''.

واستطرد البوغانمي بالقول إنه ''إذا استطاعت روسيا أن تثبّت قدمها في هذه البلدان ستكون لها اليد الطولي. لكن نجاح ذلك مرتبط بحربها ضد أوكرانيا التي لا تسير كما تشتهي نفوس القادة في موسكو حتى أن جل طاقة فاغنر منصبَّة في أوكرانيا. بمعنى أن أي نتائج سلبية للحرب في أوكرانيا على المدى المتوسط قد تُضعف الوجود الروسي في إفريقيا. وهذه مسائل لا يمكن توقعها. لكن بالفعل الوجود الفرنسي في إفريقيا وتأثيره في القرار في إفريقيا يتراجع بشكل واضح''.

من جانبه، أشار الباحث في العلاقات الدولية بشير الجويني، في حديثه لـ ''TRTعربي''، إلى أنّ ''علاقة فرنسا بمنطقة الساحل مسألة قديمة وليست مرتبطة بالمتغيرات الحاصلة بعد 2011. لكن على إثر هذه المتغيرات برزت رغبة فرنسية للتعاطي مع الطريقة القديمة (الاستعمارية) نفسها مع عدم الاتعاظ من التجارب السابقة، وهو ما أثّر سلباً على رؤية الشعوب الإفريقية في عديد من الدول بخاصة بمنطقة الساحل تجاه فرنسا''.

واعتبر الجويني، أن ''عملية برخان العسكرية قد فشلت فشلاً كبيراً مقارنة بالاعتمادات المرصودة لها وتسببت في جدال داخلي في فرنسا بين ماكرون ومعارضيه، وتسببت أيضاً في تدمير جزء مهم من المكاسب التي حققتها فرنسا بمنطقة الساحل قبل هذه العملية بخاصة تلك المتعلقة برؤية شعوب هذه الدول للوجود الفرنسي''، لافتاً إلى أن ''هذه الرؤية أصبحت تصب في اتجاه اتخاذ موقف حاد ومناهض لفرنسا، التي أصبحت مطالبة بضرورة ترك شعوب المنطقة وشأنها. وهذا تجلى في أكثر من مناسبة ومحطة ما يجعل مكانتها مهددة. وقد بدأت تفقدها''.

TRT عربي