لسنواتٍ ونزار سعداوي يكتب ويتحدث وينقل ما يجري في غزة، أملاً في أن يدرك العالم أن من فيها ليسوا أرقاماً، بل بشر لا يستحقون أن ترتكب إسرائيل بحقهم الجرائم. غطّى نزار جميع حروب إسرائيل على قطاع غزة بما فيها الحرب الأخيرة التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
كبقية زملائه من الصحفيين والإعلاميين، استيقظ نزار على أخبار بدء عملية "طوفان الأقصى"، لم يسعفه الوقت كثيراً قبل بدء التغطية التي استمرت شهوراً، عايش فيها الحرب صحفياً وإعلامياً وإنساناً ينتمي إلى مدينة غزة وشاهداً على فصول حرب الإبادة.
حاورت TRT عربي نزار سعداوي مراسل قناة TRT World في غزة، وسألته عن معنى أن تكون صحفياً في الحرب، وكيف توازن بين الرغبة في نقل الحقيقة والحفاظ على أمنك الشخصي، وبين التفكير فيما يجري حولك والتفكير بأحبابك ومن يعنيك، وفي ظل هذه الحسابات كيف تكون على مستوى الحدث؟
بين الميدان وكتاب إرشادات السلامة
عمل نزار في مجال الصحافة المكتوبة والمسموعة والمصورة لمدة 17 عاماً، نقل خلالها أخبار غزة باللغتين العربية والإنجليزية، لكن هذه السنوات كلها في كف، وتجربة الشهور الماضية في تغطية الحرب على غزة في كف أخرى كما يقول.
فالأمر لا يتعلق بـ"حجم الدمار" الذي تعرّض له قطاع غزة وأحياؤه والذي أنهى كل مظاهر الحياة فيه، إنما يمتد إلى الأمن الشخصي للعاملين في المجال الإعلامي، فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قتلت إسرائيل 143 صحفياً وإعلامياً وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
كثافة القصف وشدته، والاستهداف المباشر والمقصود للإعلاميين، وعدم مراعاة أي خصوصية لعملهم الصحفي جعل من ميدان العمل في غزة مختلفاً عن ميادين العمل الصحفي الأخرى، فـ"كل ما تعلمناه في التدريبات الخاصة بالسلامة المهنية وخصوصاً التدريبات التي نتلقاها بوصفنا مراسلين غير قابلة للتطبيق في غزة" يضيف نزار.
فما يتلقاه الصحفي من تعليمات نظرية وإرشادات سلامة عند اصطدامها بالواقع الميداني تصبح بلا فائدة، لأن الميدان نفسه لا يضم أي مكان آمن، ففي أي لحظة تكون عرضة لصاروخ أو قذيفة، تشرح لك كتب ونظريات السلامة ما الذي يجب عليك عمله، خذ ساتراً على سبيل المثال، لكن نزار يجيب "كيف تأخذ ساتراً وأين؟ سؤال منطقي، كنت في الميدان أعمل وأتواصل مع القناة، صار قصفاً قريباً جداً، ومن خوفهم عليَّ قالوا: ألغِ البث المباشر، وخذ ساتراً أول، سؤال يتبادر إلى ذهني: أين؟".
على من الدور اليوم؟
تخلق الشدائد والمصاعب روابط شخصية تستمد قوتها من فداحة الحدث ومحوريته في الذاكرة الشخصية والجماعية، وفي غزة وخلال الحروب تحديداً يجتمع صحفيو وإعلاميو المدينة في أماكن محددة، كالمستشفيات أو أحد المراكز في المدينة، وتتحول خيمهم وسياراتهم وفي أحيان كثيرة أرصفة الشوارع التي يعملون فيها إلى أماكن للإقامة والعمل في وقت واحد.
هؤلاء الزملاء أو الأصدقاء يصبحون تحت نار الحرب عائلة ممتدة، يتضح أنها تنقص كل يوم، فالعدد الذي يبدأ به الصحفي يومه من الأصدقاء، لا يكون هو نفسه عندما ينهي يوم عمله، وعند كل حادثة فقد تسأل مجموعة من الأسئلة: "عمَّن كان؟ ولمن كان يعمل؟ وهل كنتم تعرفونه شخصياً أم لا؟".
استمرارية الفقد، والعيش تحت حد الموت، تدفعك دائماً إلى مساءلة نفسك وزملائك: "متى يأتي دوري؟ هل سأكون الضحية المقبلة أم أنت؟" يضيف نزار الذي يستذكر ما أخذته الحرب من الأصدقاء والزملاء.
سبق أن استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي في شهر أبريل/نيسان الماضي طاقم قناة TRT عربي في أثناء تغطيتهم الإخبارية في مخيم النصيرات، ما أدى إلى إصابة مصور القناة سامي شحادة وبتر قدمه، بينما أصيب مراسل القناة سامي برهوم بإصابة خفيفة.
"بانة" وأطفال الحرب
الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً من حرب إسرائيل على غزة، فما يقرب من 44٪ من الشهداء هم من الأطفال، كما أن أكثر من 43 ألف طفل حرمتهم الحرب من الوالدين أو أحدهما، عشرات القصص عاشها نزار مع الأطفال الذين أحاطوا خيم الصحفيين وأماكن عملهم: "المأساة الحقيقية هي عندما تنظر حولك في رفح، في خان يونس، في غزة، وترى الأطفال في الشوارع، وتدرك أن الآلاف من هؤلاء الأطفال سيكبرون من دون أب أو أم".
من هؤلاء الأطفال "بانة" ابنة إحدى الصحفيات التي لازمت الصحفيين خلال عملهم، أحبها الجميع لما أضفته من لطافة على أجواء خيم الصحفيين، يصف نزار حضورها قائلاً: "كانت جميلة ومحبوبة، وكان جميع الصحفيين يحبونها، وكانت تُسلي الجميع بضحكاتها".
ابنة تسع السنوات انتقلت إليها عدوى الصحافة، وانشغلت في أخبار القصف والإصابات التي "حدثت في رفح منذ الصباح حتى الليل، كانت تقول ببساطة إن فلاناً توفي وفلاناً أُصيب وفلاناً فقد قدمه وفلاناً فقد ذراعه".
هي الحرب التي تدفع طفلة بهذا العمر بأن تفهم هذا الكلام وأكثر، فبانة أصبحت تدرك "الفرق بين الصاروخ الذي يرتفع والذي يسقط؟ تقول لك: هذا يرتفع وهذا الكبير يسقط علينا، حتى عندما تتحدث عن صاروخ ارتجاجي تفسر لي ماذا يعني، وأنا لم أفهم ذلك إلا عندما بلغت الثلاثين، بانة تعرف هذه الأمور بعمر تسع سنوات".
ليس جميع الأطفال حظهم كـ"بانة" في إحدى المرات التي كان يعمل فيها نزار، وينقل الأخبار على الهواء مباشرة، تقدم أحد الأشخاص حاملاً شيئاً ملفوفاً بـ"ورق السلوفان الذي يلمع"، لم يدرك نزار ماهية الشيء الملفوف، عندما سأله الرجل الذي يحمل هذا الأمر وسأله: "هذا الطفل عمره يومٌ واحد، أنا فقط أريد أن أسأل: ماذا فعل؟ ماذا يُسمى هذا؟".
لم تغادر هذه الحادثة عقل نزار ووجدانه، فهذا الطفل لم تمهله الحياة أكثر من يوم واحد، حتى يظهر له أسوأ ما فيها، فهل يقتل طفل عمره يوم واحد؟
معنى الفقد
بين سلامة العائلة والسلامة الشخصية ووظيفة نقل الحقيقة واستيعاب ما حولك، يمضي الصحفي الغزي محاولاً الموازنة بين هذه العوامل كلها، يقسم وقته بينها من دون أن تغيب عن ذهنه، فخلال تغطيته الإخبارية، وإن كان يظهر عليه التركيز في نقل ما يجري، إلا أن هذه الأشياء كلها تحضر في ذهنه حضور المصفوفات والمعادلات الرياضية.
لا مكان آمناً في غزة، مع ذلك لا يمل الإنسان من السعي في سبيل الحصول ولو على القليل من الأمان، لكن أن تكون نهاية هذا السعي وفاة من تسعى من أجله، فهذا أصعب ما يمكن أن يلاقيه ساعٍ.
يوم السادس من ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعد جهود مضنية، تمكن نزار من تأمين موعد لسفر عائلته عبر معبر رفح البري، انطلق بأخيه وأخته وابن أخيه في سيارة، وعائلة زميله في TRT عربي سامي برهوم في سيارة أخرى.
سيطر عليهم الخوف من الاستهداف، "سألنا الله السلامة والستر، وألا يستهدفونا نحن وعائلاتنا، ولو كنا وحدنا فلا مشكلة، قد تعودنا ذلك" وبعد رحلة عصيبة "وصلنا إلى المعبر وأخرجناهم، أمي توفيت" يختم نزار حديثه.
استملك نزار الحزن، لكنه عاد إلى معادلته ومصفوفته، واستمر بعدها في التغطية ومحاولة نقل ما يجري وتأكيد إنسانية أهل غزة وأنهم "ليسوا أرقاماً".