كيف ستصبح إعادة الإعمار الحرب المؤجلة في غزة؟
خلّفَت الحرب الإسرائيلية على غزة دماراً غير مسبوق طال كل أشكال الحياة في القطاع، بصورة مسَّت وجوده كمجتمع مستقرّ، وهو ما دفع دولاً إلى اتهام إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب جريمة إبادة.
دمار هائل تَعرّض له قطاع غزة خلال الحرب الحالية طال كل مناحي الحياة فيه / صورة: AA (AA)

وقدّر البنك الدولي في أحدث تقاريره تكلفة الخسائر التي تعرض لها قطاع غزة بـ18 مليار دولار، فيما ذهبت تقديرات أخرى إلى أن تكلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى 40 مليار دولار.

وتشكّل عملية إعمار غزة هاجساً لسكان القطاع ومستقبل الحياة هناك، فالدمار الذي تركته شهور الحرب الطويلة أنهك مختلف قطاعات الحياة في غزة. وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ارتفع معدل الفقر بمقدار ضعفين على حاله قبل الحرب، ليصل إلى 60.7% من السكان.

وعلى مدار شهور التفاوض بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل أصرَّت المقاومة على وضع خارطة طريق واضحة لعملية إعادة الإعمار في غزة. ونصّ قرار مجلس الأمن رقم 2735 المتعلق بوقف إطلاق النار في قطاع غزة على أن تجريَ في المرحلة الثالثة عملية إعادة إعمار شاملة لما دمرته الحرب.

وتواجه عملية إعادة الإعمار عدداً من التحديات على رأسها استمرار حالة الحرب التي تعوق خلق حالة من الاستقرار تتناسب مع عملية البناء، ورفض إسرائيل أي شكل سياسي فلسطيني في غزة وشنّها حرباً على الأجهزة المدنية، ما يؤدي إلى غياب شريك فلسطيني محلي يقود عملية البناء والإعمار.

تكاليف مليارية

ما زال من المبكر الوصول إلى تقديرات دقيقة حول إجمالي الخسائر في قطاع غزة، إلا أن عدة تقديرات صدرت عن مؤسسات دولية قدمت تقديرات أولية حول صورة الوضع في القطاع، منها تقرير أصدره البنك الدولي بتمويل من الاتحاد الأوروبي في شهر أبريل/نيسان الماضي.

وغطى الفترة من بداية الحرب حتى شهر يونيو/حزيران المقبل، ما يعنى أن ستة أشهر من الحرب لن تدخل في التقديرات التي تَضمَّنها تقرير البنك الدولي التي قد تتضاعف مع اشتداد الحرب في غزة خلالها.

وقدّر التقرير قيمة الخسائر التي تَعرَّض لها القطاع بنحو 18.5 مليار دولار، الجزء الأكبر منها جاء بسبب الخسائر في قطاع الإسكان الذي وصلت تكلفة خسائره إلى 13.29 مليار دولار، بواقع 72% من نسبة الخسائر العامة.

فيما بلغت الأضرار التي تَعرَّض لها قطاع التجارة والخدمات ما يقرب من 1.65 مليار دولار، تلتها الزراعة بقيمة 629 مليون دولار، فيما وصلت خسائر قطاع الصحة إلى ما يقرب من نصف مليار دولار، بعد أن دُمّر ما يقرب من 84% من المستشفيات والمنشآت الصحية، في حين أصبح 100% من الأطفال خارج المدارس التي دُمّر جزء منها، وتحول الجزء الآخر إلى مراكز إيواء.

وخلفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أكثر من 122 ألف شهيد وجريح، ووفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية فقد قطاع غزة ما يزيد على 25% من قوته العاملة، فيما فقد أكثر من 200 ألف شخص وظيفتهم.

وأشارت آية جعفر، الخبيرة في اقتصاد العمل في منظمة العمل الدولية في حديثها مع موقع الأمم المتحدة إلى أن فقدان هؤلاء المعيلين سيعني أن الأسر ستواجه كثيراً من الصعوبات الاقتصادية بعد الحرب.

الحرب المستمرة

لا يمكن لعملية إعادة الاعمار المضي قدماً ما دامت الحرب في غزة، فجميع عمليات الترميم والبناء تستلزم وقفاً للعمليات العسكرية. هذا ما عبّرَت عنه عدة جهات مانحة، أوضحت أنه لا يمكن بدء عملية بناء وإعمار بلا ضمانات أمنية وسياسية بأن لا تندلع الحرب مرة أخرى في القطاع.

وسبق أن صرحت مندوبة الإمارات في الأمم المتحدة لانا نسيبة، بأن بلادها لن تستثمر في عملية إعادة الإعمار بلا مسار سياسي واضح برعاية أمريكية يُفضي إلى حلّ الدولتين.

موقف الدول المانحة تدعمه التجارب السابقة، فمستشفى الصداقة التركي الذي مولت تركيا بناءه حوّلته إسرائيل إلى قاعدة عسكرية خلال الحرب الحالية، فيما دمّرَت مدينة حمد السكنية التي مولت بناءها قطر، كما أن المدينة المصرية التي موّلَت الحكومة المصرية بناءها شمال مدينة غزة تعرضت للتدمير دون أن يتمكن الفلسطينيون من السكن فيها.

وتتوالى التصريحات الإسرائيلية التي تؤكّد أن إسرائيل عازمة على الاستمرار لفترة طويلة في حربها على غزة، وفي شهر مايو/أيار الماضي توقع رئيس الأركان الإسرائيلي هيرتسي هاليفي أن عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة سوف تستمر حتى نهاية العام الحالي.

هذا الأمر يعني أن ملفّ إعادة الإعمار سيظل معطَّلاً ما دامت إسرائيل مصرة على استمرار عملياتها العسكرية في غزة، وأن معاناة سكان القطاع ستظلّ قائمة مع استمرار رفض إسرائيل مقترحات وقف إطلاق النار.

الأجهزة المدنية في عين الاستهداف

أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مؤتمر "الاستجابة الإنسانية لغزة" الذي عُقد في الأردن، عن خطة " الإنعاش والإغاثة" لقطاع غزة. الخطة تضمنت ثلاث مراحل، تركّز الأولى على الاستجابة الطارئة، والثانية على الإغاثة الشاملة، والثالثة على الإنعاش المبكر للوضع في غزة.

هذه الخطة تنضمّ إلى مبادرات أخرى قدمتها السلطة الفلسطينية وجهات أخرى، واستعدادات دولية وإقليمية للمساهمة في عملية إعادة الإعمار. وتصطدم هذه الجهود بالقرار الإسرائيلي الذي يعطّل عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة من جانب، ويهاجم الحكومة الفلسطينية والأجهزة المدنية في حكومة غزة من جانب آخر.

وسبق أن أكّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، رفضه أي وجود لأي حكم سياسي فلسطيني، قائلاً: "لست مستعدّاً لاستبدال حماسستان بفتحستان"، فيما تنظر المبادرات الإسرائيلية لأشكال من الحكم المحلي الذي يتعاون مع الحكومة الإسرائيلية في ضبط الأمن وإدارة حياة السكان هناك.

وفي ظلّ صعوبة أداء هذه الأجسام المحلية -التي تنظر إليها إسرائيل- أي دور سياسي ضخم يرقى إلى إدارة عملية إعادة الإعمار بمليارات الدولارات، وصعوبة تعامل القوى الدولية والإقليمية معها، فإن إسرائيل تحكم على سكان القطاع بالبقاء بلا أي عملية إعمار يمكن لها بثّ الحياة من جديد في قطاع غزة، وتجاوز الآثار الكارثية التي تركتها الحرب الإسرائيلية.

TRT عربي