شهد اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير، على قرار يروم وقف إطلاق نار إنساني في غزة، يوم الثلاثاء، مفاجأة تمثلت بزيادة كبيرة في عدد الأصوات المؤيدة له، بما فيها تغيير عدد من الدول الغربية والحليفة لواشنطن وتل أبيب من موقفهم إزاء الحرب الجارية.
ويأتي هذا بعد الانتقادات الواضحة التي وجهها الرئيس الأمريكي جو بايدن للحكومة الإسرائيلية، وتحرك أوروبا نحو معاقبة المستوطنين الإسرائيليين المرتكبين لأعمال عنف في الضفة الغربية.
وتشير هذه التطورات إلى تصاعد الضغط الدولي على إسرائيل من أجل إيقافها العدوان على الشعب الفلسطيني. بينما يرى مراقبون أنها قد تمثل غطاء سياسياً لإسرائيل من أجل خروجها من مأزق خسارة الحرب، وخاصة أن جيشها لا يزال عاجزاً على تحقيق أي من أهدافه الميدانية والسياسية.
تراجع التأييد الدولي
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال دورتها الاستثنائية الطارئة العاشرة يوم الثلاثاء، بالأغلبية على قرار يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار والإفراج الفوري عن جميع الرهائن وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وقدّم هذا القرار من 21 دولة عربية، ودعمه عدد كبير من الأعضاء، من بينهم حلفاء مقرّبون لإسرائيل والولايات المتحدة. وأيّد القرار نحو 153 دولة، من بينها فرنسا وروسيا والصين واليابان وكندا وأستراليا. فيما عارضته الولايات المتحدة وإسرائيل، إضافة إلى ثماني دول أخرى. وامتنعت ألمانيا وبريطانيا، ضمن 21 دولة أخرى، عن التصويت.
وشكّل هذا التصويت مفاجأة لعدد من المراقبين، إذ يشير إلى التراجع الكبير الذي يشهده الدعم الدولي لإسرائيل في حربها الجارية على غزة. ومقارنة بقرار مشابه جرى اعتماده شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، قفز عدد الأصوات المؤيد من 120 إلى 153، أي بزادة تأييد 33 عضواً في الأمم المتحدة. كما انخفضت الأصوات المعارضة من 14 إلى 10 أعضاء.
واستغرب الإعلام الأمريكي والدولي، لموافقة دولة كأستراليا على القرار الأخير، ووصفوا ذلك بـ "الحدث النادر" على اعتبار أن كانبيرا هي أحد أوثق الحلفاء لواشنطن. وقالت وزيرة الخارجية الأسترالية، بيني وونغ، الأربعاء، "إنه يتعيّن على إسرائيل أن تحترم القانون الإنساني الدولي، ويجب حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات (...) القرار الذي أيدناه يتماشى مع الموقف".
ويأتي هذا الإجماع الكبير للمنظمة الدولية حول مطالبة إسرائيل بوقف إطلاق النار، تباعاً للرسالة الأخيرة التي بعثها الأمين العام للأمم المتحدة، والتي فعل من خلالها المادة 99 من الميثاق الأممي، مشيراً إلى أن الحرب في غزة أصبحت تهدد السلم والاستقرار العالميين.
وهو ما أيّده أطراف دوليون، منهم داعمون لإسرائيل في ما سمّوه "حق الدفاع عن نفسها". وأيّد مسؤول الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل، قرار الأمين العام للأمم المتحدة، وحثّ أعضاء الاتحاد الأوروبي على دعم ذلك القرار. وانعكس هذا على مناقشات مجلس الأمن، يوم الجمعة، لقرار تقدمت به البعثة الإماراتية لوقف إطلاق النار في غزة، إذ دعم أعضاء المجلس القرار، بالمقابل كان الفيتو الأمريكي العقبة الوحيدة أمام تمريره.
تغيّر في موقف أوروبا والولايات المتحدة
في تصريحاته يوم الثلاثاء، اعتبر الرئيس الأمريكي جو بايدن أن إسرائيل بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي بقصفها العشوائي لقطاع غزة، ما أودى بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين. وقال بايدن، في كلمة خلال فاعلية لجمع تبرعات لحملته الانتخابية بواشنطن، إن الإسرائيليين "بدؤوا يفقدون هذا الدعم (الدولي)".
ويأتي هذا عقب تزايد الضغط على الولايات المتحدة، إزاء دعمها المتواصل للعدوان الإسرائيلي. وكتبت صحيفة نيويورك تايمز، أن واشنطن تعيش تحت ضغط دولي متزايد بعد فيتو وقف إطلاق النار. وقالت صحيفة الغارديان البريطانية إن "الضرر السياسي الذي يلحقه الاشمئزاز العالمي الناتج عن ذلك بجو بايدن، وبالنظام الدولي القائم على القواعد بقيادة الغرب، غير قابل للإصلاح".
وقال روب بارسون، رئيس تحرير قسم القضايا الدولية بقناة "فرانس 24"، إن "الفيتو الأمريكي جعل إدارة بايدن تحت ضغط كبير، وبالتالي يزيد الضغط الأمريكي على الإسرائيليين خلف الكواليس من أجل حماية المدنيين". واستشهد المحلل بكلمات وزير الخارجية الأمريكي، الذي قال إن "رصيد إسرائيل قارب على النفاد".
كما توقعت هآرتس أن تشهد الأسابيع القادمة صداماً بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي جو بايدن. وقد برزت مؤشرات الصدام بعد انتهاء الهدنة الإنسانية مطلع الشهر الجاري، وما صاحبها من حديث علني من إدارة بايدن يتعلق بضرورة أن "تبذل إسرائيل جهوداً فعلية لتقليل الخسائر البشرية والمادية بين المدنيين في غزة".
وبالتزامن مع هذا، أصدرت حكومات أستراليا وكندا ونيوزيلندا بياناً مشتركاً، يوم الثلاثاء، يدعو إلى وقف الأعمال العدائية في غزة للسماح "بالوصول الآمن ومن دون عوائق للمساعدات الإنسانية" إلى جميع المدنيين الفلسطينيين وإطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين.
وفي أوروبا، لم يتغير موقف الاتحاد عند دعم قرار وقف إطلاق النار، بل ذهب إلى دراسة فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. وكشف مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، يوم الاثنين، أنه سيقترح فرض عقوبات على المستوطنين المسؤولين عن العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
غطاء لهزيمة إسرائيل؟
وإلى الآن، لم ينجح جيش الاحتلال الإسرائيلي في تحصيل أي مكاسب ميدانية أو أمنية من عدوانه على غزة، وسبق أن تحدّثت وسائل إعلام إسرائيلية على أن "كل مرحلة من مراحل الحرب الجارية، يمكن أن تأخذ سنة من المواجهة".
وفي تقرير لها، كتبت صحيفة "ذا ناشونال" الأمريكية، بأن "إسرائيل تخسر الحرب"، ونقلت عن محللين استراتيجيين تحذيرهم بإمكانية خسارة إسرائيل الحرب، مرجعين ذلك للأهداف السياسية الصعبة التي رصدها قادة الاحتلال لها.
وشبهت الصحيفة الحرب على غزة بحرب الفيتنام، واستشهدت بقول مستشار الأمن القومي الأمريكي الراحل هنري كيسنجر، الذي قال عن هزيمة بلاده: "لقد خضنا حرباً عسكرية، وخصومنا خاضوا معركة سياسية. وفي هذه العملية فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر. والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".
وشدد التقرير على أن "مفهوم حماس للنصر العسكري، يدور حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد. إن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل". ومنه فإن إسرائيل قد تفشل في تحقيق أهدافها من الحرب.
وفي ظل هذه التطورات، شدّد وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، على أن بلاده "ستواصل الحرب على حماس سواء بالدعم الدولي أم من دونه". وهو ما يؤكد ما جرى تداوله سابقاً، حول أن نتنياهو يريد أن تستمر هذه الحرب إلى الأبد، أو على الأقل حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية. لأنه يدرك تماماً أنه في اليوم الذي تنتهي فيه الحرب، سوف تجتاح إسرائيل موجة من الاحتجاجات لم تشهد البلاد مثلها من قبل تتسبب في انهيار ائتلافه الحاكم.
ويرى محللون، أن انحسار الدعم الدولي يمكن أن يصبح ورقة رابحة في يد إسرائيل من أجل مواجهة جبهتها الداخلية المحتقنة والهروب من مأزق الهزيمة. أي إنها قد تعلل وقفها للعمليات العسكرية بالانحسار الدولي الذي تعرضت له، لا لما يقع في الواقع من فشل في تحقيق أي هدف من الحرب سوى تذبيح المدنيين العزل.
وفي هذا السياق، بدأ قادة إسرائيل بالتلويح بإمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات مع حماس، من أجل هدنة إنسانية جديدة. وهو ما ترفضه المقاومة، وتشترط وقف الجيش الإسرائيلي عدوانه على غزة. وأكّد القيادي في حماس أسامة حمدان، أنه "لا حديث عن أي صفقة تبادل أسرى قبل توقف العدوان على غزة"، لافتاً إلى أن "تسريبات الجانب الإسرائيلي بشأن صفقة مرتقبة هي للاستهلاك الداخلي وتهدف لمواجهة الضغوط الداخلية".