ألمانيا في أزمة.. ركود اقتصادي وتسريحات ضخمة تهدد مستقبل أكبر اقتصاد أوروبي
تواجه ألمانيا مستقبلاً اقتصادياً غامضاً، وسط ارتفاع معدلات البطالة وعدم الاستقرار السياسي، وأعلن العديد من الشركات الألمانية الكبرى المدرجة في قائمة فورتشن 500 عن تسريح أكثر من 60 ألف عامل هذا العام.
مظاهرة لموظفي شركة صناعة السيارات الألمانية فولكس فاجن (فولكس فاجن) خارج مصنع الشركة في هانوفر شمالي ألمانيا. / صورة: AFP (AFP)

ومن المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة المزيد من عمليات تسريح العاملين مع استمرار معاناة الاقتصاد الألماني، وخاصة صناعتها المعتمدة على التصدير التي تمثل 30% من الناتج المحلي الإجمالي، بفعل المنافسة المتزايدة من الصين وارتفاع تكاليف الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا.

وفي تعليق له، كتب كارستن بريزسكي، رئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي في بنك ING: "في عالم أصبحت فيه الصين هي 'ألمانيا الجديدة' -على الأقل في مجال التصنيع- لم يعد نموذج الأعمال الكلي القديم لألمانيا القائم على الطاقة الرخيصة والأسواق التصديرية الكبيرة في متناول اليد".

وتعد شركة بوش، إحدى أكبر الشركات الصناعية في ألمانيا الأكثر تأثراً، وأعلنت عن خطط لتسريح 7000 عامل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كما خفضت الشركة ساعات العمل لآلاف الموظفين، ما أجبرهم فعلياً على العمل لمدة أربعة أيام أسبوعياً مقابل أجور أقل.

وعزت الشركة هذه الإجراءات إلى "الوضع الاقتصادي الصعب"، محذرة من أنها لن تتمكن من تحقيق أهدافها المالية لعام 2024. بالمثل، كشفت شركة تيسينكروب، عملاق الصلب والهندسة، عن خطط لتسريح 11 ألف عامل، معظمهم من قسم الصلب، بسبب المنافسة المتزايدة من الواردات الصينية الرخيصة وارتفاع التكاليف.

كما كشفت شركة سيمنز، الرائدة عالمياً في تكنولوجيا الأتمتة، عن خطط لتسريح 5000 موظف، معظمهم في قسم الأتمتة، بعد انخفاض حاد في الأرباح.

هذه التسريحات تبرز الصعوبات التي يواجهها قطاعا الصناعة والتكنولوجيا في ألمانيا، اللذان كانا في الماضي من أعمدة الاقتصاد الوطني. ويصف روبن وينكلر، كبير خبراء الاقتصاد في دويتشه بنك في ألمانيا، عبر حديث له مع فايننشال تايمز هبوط الإنتاج الصناعي بأنه "الانحدار الأكثر وضوحاً" في تاريخ ألمانيا بعد الحرب.

بينما حذر سيجفريد روسورم، رئيس اتحاد الصناعات الألمانية، في سبتمبر/أيلول الماضي من أن "نموذج الأعمال في ألمانيا في خطر شديد، ليس في وقت ما في المستقبل، بل هنا والآن". وقال إن خمس الإنتاج الصناعي المتبقي في ألمانيا قد يختفي بحلول عام 2030.

من جهة أخرى، لم تعلن فولكس فاجن، أكبر شركة لصناعة السيارات في ألمانيا، عن تسريحات للعمال حتى الآن، لكنها بدأت تقليص قوتها العاملة عبر التسريح الطوعي والتقاعد المبكر. كما أن الشركة تخوض عملية لخفض التكاليف تستهدف تقليص نفقاتها بمقدار 10 مليارات يورو.

وقد توقع المحللون أن تسرح فولكس فاجن ما يصل إلى 15 ألف موظف، رغم أن المفاوضات مع النقابات العمالية قد أرجأت الإعلان الرسمي عن ذلك. كما أشارت شركات أخرى مثل مرسيدس بنز إلى أنها قد تتبع النهج نفسه، محذرة من تخفيضات في التكاليف وتسريح للوظائف.

تخبط السياسة الألمانية وأثره الاقتصادي

يعقّد عدم الاستقرار السياسي في ألمانيا جهود البلاد في مواجهة تحدياتها الاقتصادية. فقد أدى انهيار حكومة الائتلاف الثلاثي بقيادة المستشار أولاف شولتز في وقت سابق من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى خلق فراغ سياسي، إذ غابت رؤية واضحة للقيادة.

ووضعت الحكومة الألمانية التي تشكلت في 2021 على رأس أهدافها تحديث الاقتصاد الألماني ومعالجة تحدياته، مثل التحول في قطاع الطاقة والرقمنة. ولكن الانقسامات حول قضايا أساسية، مثل سياسة المناخ والإصلاح الضريبي، أدت إلى تعطل العمل الحكومي في النهاية وانهيار الائتلاف.

وتشير صحيفة نيويورك تايمز إلى نموذج من التخبط الحكومي وأثره في الاقتصاد الألماني، فخلال نهاية العام الماضي كان هناك قرار مفاجئ من الحكومة بإنهاء الدعم للسيارات الكهربائية في محاولة لتقليص الميزانية، وقد شهد صانعو السيارات، الذين كانوا قد بدؤوا في زيادة إنتاج السيارات التي تعمل بالبطاريات، انخفاضاً حاداً في الطلب بعد أن سحب العملاء المترددون اهتمامهم.

وتضيف الصحيفة أن ذلك أدى إلى تقليص هائل في الوظائف في صناعة السيارات وإعلان شركة فورد موتور إلغاء 4,000 وظيفة في أوروبا، معظمها في ألمانيا.

ويحذر الخبراء من أن غياب حكومة مستقرة في هذه المرحلة الحرجة لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمات الاقتصادية. وأكد سالومون فيدلر، الخبير الاقتصادي في بنك بيرينبيرغ، في حديث له مع نيويورك تايمز أن فرص النمو على المدى الطويل في ألمانيا "محدودة للغاية" من دون إصلاحات سياسية كبيرة.

لا تقتصر تحديات ألمانيا الاقتصادية على القضايا المحلية فقط، بل تزداد تعقيداً بسبب التطورات الجيوسياسية، وفي هذا الإطار يقول مارسيل فراتشير رئيس المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية في مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية "NPR" إن "ألمانيا تضررت بشكل خاص من الوباء والآن من صدمة الطاقة الناجمة عن حرب أوكرانيا. لاعتمادها بشكل كبير على الوقود الأحفوري الروسي قبل الحرب، وهذا يعني أن تكلفة الطاقة ارتفعت كثيراً. تمتلك ألمانيا صناعة كثيفة الاستهلاك للطاقة".

وفي السياق نفسه، زادت المنافسة العالمية، وخاصة من الصين والأسواق الناشئة الأخرى، ما جعل من الصعب على الشركات الألمانية الحفاظ على قدرتها التنافسية في قطاعات مثل صناعة السيارات والآلات الصناعية.

تشكل سياسات التجارة الحمائية، مثل تلك التي أعلنها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب، تهديداً آخر للاقتصاد الألماني، وتحديداً تهديدات ترمب بفرض رسوم على الواردات الأوروبية، بما في ذلك السيارات الألمانية، وحذر كارستن برزيسكي، رئيس قسم الاقتصاد الكلي في بنك ING، من أن فترة ترمب الثانية قد تؤدي إلى "حرب تجارية" تضعف قطاع التصنيع الألماني بشكل أكبر.

مستقبل قاتم

تتوقع الحكومة الآن انكماشاً اقتصادياً بنسبة 0.2% هذا العام. وإذا تحقق ذلك، فستصبح ألمانيا الدولة الوحيدة بين دول مجموعة السبع التي تواجه ركوداً.

كما أن الصادرات الألمانية تشهد تراجعاً مستمراً، ووفقاً لمكتب الإحصاء الاتحادي الألماني انخفضت بنسبة 1.7% في شهر سبتمبر/أيلول مقارنة بالشهر السابق، بسبب تراجع الطلب من الصين، وشهد القطاع الصناعي أيضاً انخفاضاً بنسبة 2.5% خلال الفترة نفسها، ما يبرز نقاط الضعف في قطاع السيارات.

يشير المحللون إلى أن النمو العالمي البطيء، والتوترات الجيوسياسية، وصعود الصين، وحساسية المستهلكين تجاه التضخم، كلها عوامل تؤثر سلباً في واردات ألمانيا. ومع تزايد قدرة الصين على الإنتاج بشكل مستقل، يبقى النمو الاقتصادي الألماني في حالة ركود.

نيلس يانسن، الباحث البارز في معهد كيل للاقتصاد العالمي، قال إن الاقتصاد الألماني في حالة جمود منذ أوائل عام 2022، كما أفاد معهد "إيفو" أن 41.5% من الشركات الألمانية أشارت إلى وجود نقص في الطلبات خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، وهي النسبة الأعلى منذ الأزمة المالية لعام 2009، متجاوزة حتى مستويات جائحة كورونا. وذكر التقرير أن 47.7% من الشركات الصناعية و68.3% من شركات إنتاج المعادن أبلغت عن نقص في الطلبات.

وبينما تبقى حكومة ألمانيا في حالة من التقلبات، ينتظر الجميع أن تسهم الانتخابات المقبلة المبكرة، في فبراير المقبل، في تشكيل قيادة سياسية قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تواجه البلاد.

TRT عربي - وكالات