ملهمو منفّذ هجوم نيوزيلندا يستمرّون في الظهور
تُشكِّل العصبية القومية اليمينية المُتشدِّدة أكبر تهديدٍ للسلام في المجتمعات الغربية، ويجب أن تبدأ أجهزة إنفاذ القانون في التعامل معها من هذا المنطلق.
مسيرة لما يعرف بالنازيين الجدد.  (Getty Images)

تُشكِّل العصبية القومية اليمينية المُتشدِّدة أكبر تهديدٍ للسلام في المجتمعات الغربية، ويجب أن تبدأ أجهزة إنفاذ القانون في التعامل معها من هذا المنطلق.

أرسل برينتون تارانت تحذيرًا على منتدى اليمين المُتشدِّد بموقع 8Chan قبل ساعاتٍ من تنفيذ هجومه على مسجد كرايستشيرش في نيوزيلندا، الذي أسفر عن مقتل 50 شخصًا وعديد من الإصابات الخطيرة، وقال في تحذيره: "حسن، حان وقت التوقُّف عن كتابة المنشورات الهرائية وبذل الجهد على أرض الواقع. سأشُنُّ هجومًا على الغزاة [المُسلمين]، وسأعرض الهجوم على الهواء مباشرةً عبر رابطٍ على موقع فيسبوك".

في حال كنتَ قد شاهدت الفيديو، وهذا ما فعلته أنا للأسف، فلا شك أنَّك لا تزال على الأرجح تُعاني صعوبةً في التعايش مع ما يجب وصفه بالمذبحة الشنيعة التي لا مثيل لها، وهي مذبحةٌ لن يُخطِّط لها سوى شخصٍ مُختلٍّ يُعاني كراهيةً مرضيةً تجاه المُسلمين.

سجَّل تارانت كل لحظةٍ من الفوضى المُروِّعة التي أحدثها على مدار 17 دقيقة عبر كاميرا مُعلَّقة في خوذته، إذ تراه يقود سيارته مُتَّجهًا إلى المسجد، ثم يُخرج سلاحه نصف الآلي من صندوقها الذي يحتوي على عددٍ من الأسلحة والذخائر والصفائح.

يسير تارانت بعدها باتجاه المسجد ليبدأ في إطلاق النار، وحين يقتحم الأبواب الأمامية تبدأ في سماع أصوات بكاءٍ وصراخٍ مذعورٍ من المُصلِّين المُجتمعين، وتبدأ المذبحة بإعدامهم واحدًا تلو آخر من مسافةٍ قريبة.

ثم يخرج تارانت من المسجد مُتَّجهًا إلى سيارته بعد إفراغ مخازن الذخيرة، ليُعيد تعبئتها مرةً أخرى، ويدخل المسجد من جديد ليُجهِز على من نجا من موجة الرعب الأولى.

ونعلم أيضًا أنه لم يُنفِّذ الهجوم بمفرده، نظرًا إلى وجود ثلاث أشخاصٍ آخرين رهن الاحتجاز.

تجاهُل الساسة ووسائل الإعلام والرأي العامّ التهديد الذي يُشكِّله مُتشدِّدو اليمين والعنصريون البيض، فضلًا عن استمرارهم في توفير مساحةٍ للشخصيات التي تنشر الكراهية العنصرية المناهضة للمسلمين والمهاجرين.

سي جي ويرلمان

طرحت جاسيندا أرديرن، رئيسة الوزراء، سؤالًا بلاغيًّا في خطابها المُتلفَز إلى الشعب الحزين، وهو شعبٌ لم يسبق له مُعايشة الإرهاب وإطلاق النار الجماعي. قالت في سؤالها: "كيف حدث ذلك هنا؟".

حدث ذلك بسبب تجاهُل الساسة ووسائل الإعلام والرأي العامّ التهديد الذي يُشكِّله مُتشدِّدو اليمين والعنصريون البيض، فضلًا عن استمرارهم في توفير مساحةٍ للشخصيات التي تنشر الكراهية العنصرية المناهضة للمسلمين والمهاجرين، والتي تدفع بضعاف النفوس من الرجال البيض على غرار تارانت إلى حافة التطرُّف وتنفيذ هجماتٍ تُصنَّف تحت مظلة موجة الإرهاب الجديدة في نصف الكرة الغربي.

زعم تارانت، على حد تعبيره في منشورٍ على الإنترنت، أنَّه "تَحوَّل إلى التطرف" بفضل كانديس أوينز، المُعلِّقة الأمريكية المُحافظة الشهيرة، التي قال عنها: "ساعدتني على تقوية قناعتي بأنَّ العنف أفضل من الخنوع".

يُشِيد النُّشطاء اليمينيون بكانديس، الأمريكية من أصول إفريقية، ويمنحونها منصةً للحديث في أكبر منافذ الإعلام المُحافظ الشهيرة والرائجة مثل Fox News، وذلك لتُؤكِّد الروايات العنصرية البيضاء، مثل المزاعم بأنَّ إطلاق ضباط الشرطة البيض النار على السائقين السود العُزْل لا علاقة له بالعنصرية.

تُعرَف كانديس أيضًا بخُطَبِها المُعادية للمسلمين، بما في ذلك ترديد نظرية مؤامرة "الزحف الإسلامي" الخاطئة التي تندرج تحت أفكار الإسلاموفوبيا، وتتوقع أن تتحوَّل أوروبا إلى قارةٍ ذات أغلبيةٍ مُسلمةٍ في غضون العقود الثلاثة المُقبلة، على عكس الأدلَّة الراهنة.

لا يُشكِّل تارانت في هذا الصدد حالةً شاذَّةً أو غير مُعتادة وهذا أمرٌ مُثيرٌ للقلق إذ يُمثِّل ما تعتبره الوكالات الأمنية التهديد الإرهابي الأول: التشدُّد اليميني.

سي جي ويرلمان

يتبنى هذا النوع من نظريات المؤامرة أشهر دعاة كراهية المُسلمين، مثل ريتشارد سبينسر وسام هاريس ودوغلاس موراي وآيان حرسي علي وغيرهم، ممن يُسمح لهم بالظهور في وسائل الإعلام الرائجة بانتظام، وهذا هو سبب تحوُّل المُتشدِّد اليميني النرويجي أندرس بريفيك إلى التطرف أيضًا، وقتله 77 طالبًا عام 2011.

كتب تارانت في الفقرة الافتتاحية من بيانه: "ميركل (المستشارة الألمانية )، أم كل ما هو مُعادٍ للبيض، والهُوِيَّة الألمانية تقع على قمة تلك القائمة، إذ إنَّها من أكثر من أضروا بأوروبا وسعوا لتطهيرها عرقيًّا من سكانها". ونشر تارانت بيانه تحت عنوان "الإحلال العظيم"، الذي يشير إلى نظريةٍ مؤامراتية عن "إبادةٍ جماعية للبيض"، وهي النظرية ذاتها التي تسببت في اتجاه منفِّذ مذبحة معبد بيتسبرغ إلى التطرف، وقتل 11 يهوديًّا في أثناء شعائرهم في أكتوبر/تشرين الأول 2018.

وفي عمودٍ كتبتُه لشبكة TRT World العام الماضي، أشرت إلى الكيفية التي سلَّط بها جي إم بيرغر، مُحلِّل مكافحة الإرهاب في المركز الدولي لمُكافحة الإرهاب في لاهاي، الضوء على تحوُّل المُتشدِّدين المُناهضين للمُسلمين، إلى التطرف بنفس الطريقة التي ينشأ بها "الجهاديون" عن طريق التعرُّض للخطاب السياسي والاجتماعي الذي ينشر ثنائية "نحن وهم".

تَبَنَّى تارانت نظريات المؤامرة مثل "التطهير العرقي الأبيض" و"الزحف الإسلامي"، وتحوَّل إلى التطرف بنفس الطريقة التي ذكرها بيرغر، كما يظهر جليًّا في اعتقاده بتعرُّض العالم الغربي الأبيض (الجماعة الداخلية) لتهديد المهاجرين المُسلمين (الجماعة الدخيلة).

ولا يُشكِّل تارانت في هذا الصدد حالةً شاذَّةً أو غير مُعتادة، وهذا أمرٌ مُثيرٌ للقلق، إذ يُمثِّل ما تعتبره الوكالات الأمنية التهديد الإرهابي الأول: التشدُّد اليميني. فالجماعات والأفراد المُنتمون إلى اليمين هم المسؤولون عن الهجمات الإرهابية كافَّةً التي نُفِّذت على أرض الولايات المُتحدة عام 2018. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ بعض مراكز الأبحاث المتخصصة تعزو انتشار هذه الظاهرة إلى "المزيج السامّ من الاستقطاب السياسي والمشاعر المُعادية للمُهاجرين، والتكنولوجيا المُعاصرة التي تنشر تلك الدعاية عبر الإنترنت".

لكن كما يتضح، لا تُعِير الحكومات الغربية التهديد الذي يمثله اليمينيون المتطرفون الانتباه الذي يستحقه، ويتجلى هذا في أنَّ تارانت وشركاءه لم يكونوا على قوائم مراقبة أجهزة الاستخبارات، وَفْقًا لرئيسة الوزراء النيوزيلندية، وهو أمرٌ مُقلِق لأنَّ تارانت كان يَعِد بانتظامٍ على الإنترنت بقتل وإيذاء المسلمين.

وانظر إذًا إلى الطريقة التي يُحال بها المسلمون بانتظام إلى برامج مكافحة التطرف والعنف أو أجهزة الاستخبارات لأنَّهم قرروا فجأةً عدم حلق لحاهم، أو عبَّروا عن تضامنهم مع فلسطين، أو حتى بنوا ساعةً لمشروعٍ مدرسي. ازدواج المعايير الخطير هنا واضح للغاية.

لهذا، إن قرَّرَت الحكومات الغربية الاستمرار في تجاهل الشعبية المتزايدة لليمين المتطرف والحركات القومية المتطرفة والناشطين المؤمنين بتلك الأفكار، على الإنترنت وخارجه، فيجب عليها إذًا أن لا تُفاجَأ في المرة القادمة التي يقرر فيها رجلٌ أبيض تَغَذَّى على محتوًى إعلامي مناهض وكاره للمسلمين والأقليات أن يُطلق النار على مسجد أو معبد أو كنيسة خاصَّة بالسود.

- هذا الموضوع مترجم عن موقع TRT World.

TRT عربي