أين تكمن أزمة المنظمات العربية الإقليمية؟
لا يمكن أن تنسلخ منظمة إقليمية دولية عن السياق الدولي الذي بزغت فيه، ولا أن تكون بمنأى عن التطورات التي تعرفها الساحة الدولية.
جامعة الدول العربية (AA)

ثلاث منظمات عربية إقليمية برزت في سياقات معينة، لم تثبت لتطور الأحداث، فدبّ فيها الوهَن. تبدو معطلة أو مشلولة وغير مؤثرة، هي جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغربي. أهمها هي جامعة الدول العربية، بالنظر إلى اتساع مجال تمثيليها، إذ تشمل الدول العربية كلها، أما أكثرها تأثيراً، في فترة، فهو مجلس التعاون الخليجي الذي استطاع لفترة أن ينتظم في رؤية موحدة، وتنسيق دبلوماسي، وإجراءات عملية منها تنقل الأشخاص في دول الخليج، وأقلها تأثيراً هو اتحاد المغرب العربي، الذي عرف في السنوات الأولى لنشأته سنة 1989 زخماً، وانطفأ مع أزمة الخليج منذ 1991، وأضحى اليوم رسماً من غير أثر. ولم ترْقَ هذه المنظمات كي تكون إطاراً لعلاقات اقتصادية بينية قوية، ولا لأي تعاون ملموس، على أي مستوى.

نشأت جامعة الدول العربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكانت الإطار الذي يجسد بيت العرب، وكانت أهدافها الكبرى هي القضية الفلسطينية، والدفاع عن الدول العربية التي كانت ترزح تحت الاستعمار، ومنها الدول المغاربية، وكانت لذلك هي القناة المدافعة عنها في الأمم المتحدة، ومن كان يمنحها منصات تمثيل في القاهرة، وأدوات إعلامية.

كان أهم مقتضى في ميثاق الجامعة العربية، هو الدفاع المشترك. نجحت الجامعة في فترة في تذويب الخلافات، وفي مساعٍ حميدة للصلح بين أطراف متنازعة، وكان ما يمنحها قوة، مكانة مصر حينها، وشخصية جمال عبد الناصر.

بقيت الجامعة هي الإطار الذي يحفظ المشترك، والأداة التي بلورت عقب حرب أكتوبر، أرضية موحدة في ما يخص القضية الفلسطينية، وتبنت في قمة 1974، القرار الذي يجعل منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني واضعة حدّاً للنزاع القائم حينها بين الأردن والقيادات الفلسطينية والذي تفجر في ما يُعرف بأيلول الأسود سنة 1970.

ويمكن أن يُعتبر ذلك القرار، آخر ما يُحسب للجامعة العربية، إذ لم تؤثر في مجرى الأحداث في لبنان، لما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، وتعمق الشرخ مع إبرام مصر لاتفاقية كامب ديفيد، سنة 1979، كصلح أحادي، وكان من تداعياته إخراج مصر من جامعة الدول العربية، وتحويل مقرها إلى تونس، وتعيين أمين عامّ تونسي، الشاذلي القليبي، وكان منصب الأمين العامّ، بمقتضى النص المؤسس.

وتوزعت الجامعة العربية، في خضم الحرب الإيرانية-العراقية، بين مؤيّدين للعراق، هم الغالبية، ومؤيدين لإيران، منهم سوريا وليبيا، ومحايدين، بخاصة الجزائر.

عادت مصر إلى جامعة الدول العربية، عقب مؤتمر الدار البيضاء سنة 1990، وعاد مقر الجامعة العربية إلى القاهرة، واستعادت مصر منصب الأمين العامّ، ولكن الجامعة العربية لم تسترجع عنفوانها، وأخفقت في إيجاد حل للنزاع العراقي-الكويتي، بعد اجتياح قوات صدام للكويت، وتوزع العالم العربي ما بين ما كان يسمى 6+2، أي دول الخليج زائد مصر وسوريا، والداعمين للتدخل العسكري الأمريكي، أو ما كان يعرف بالتحالف الدولي.

كان ذلك هو الاختبار الكبير الذي أخفقت فيه الجامعة العربية، ومن حينها لم تقم بدور مؤثر، وغارت في لقاءات بروتوكولية، وخلافات إجرائية حول منصب الأمين العامّ. والإنجاز الوحيد الذي يُحسب لها، هو المبادرة العربية، التي تبنتها قمة عربية في بيروت سنة 2002، الداعية إلى حل الدولتين والتي ردت عليها إسرائيل بقصف مقر رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.

ويُعتبر عدم اتخاذ موقف موحد في ما يسمى اتفاق أبراهام، الإسفين الذي ينهي عملياً جامعة الدول العربية.

في أعقاب الحرب الباردة، وبعد نهاية الحرب الإيرانية-العراقية، انتظمت دول الخليج سنة 1990، في ما يُعرف بمجلس التعاون الخليجي، واتسم بالدور المميز للسعودية، بداخل الاتحاد، لكن أعراض الوهن بدت، ولكن مستترة بعد حسم خلاف حدودي سنة 1994 مع قطر لصالح السعودية، وهو الذي أدى إلى تنائي قطر عن صف دول الخليج، وإرساء سياسة متمايزة.

وكان من أدوات التعبير عنها إطلاق قناة الجزيرة، التي تحولت، من مجرد قناة، إلى مؤسسة، وساحة للتعبير عن قضايا العالم العربي، وانتشر تأثيرها في العالم العربي، بل وأصقاع العالم، وأصبحت تضاهي أعرق القنوات الدولية، ومنها CNN.

وتَفجَّر الخلاف بعد الحصار الذي ضُرب على قطر سنة 2017، مما يشلّ عملياً مجلس التعاون الخليجي الذي كان يُنظر إليه كنموذج ناجح، حقّق لفترة الحدَّ الأدنى من التنسيق على المستوى الدبلوماسي، وتنقُّل الأشخاص ببطاقات الهُويَّة، بلا حاجة إلى جواز السفر. ولَإن استطاع المجلس أن يتجاوز الأزمة مع قمة العلا الأخيرة، وعودة قطر إلى المجلس ورفع الحصار، فإنه لم يبرأ من أعراض التصدع.

المؤسسة الثالثة التي كانت محطَّ آمال كبيرة، هي اتحاد المغرب العربي الذي انتظم زعماؤه في قمة، بمراكش 1989، وأرسى آلية للقمم تنعقد كل ستة أشهر، ومجلساً لوزراء الخارجية، وبرلماناً مغاربياً، وأمانة عامة.

استطاع الاتحاد أن يتجاوز ملف قضية الصحراء المطروح على أنظار الأمم المتحدة، ولكن أزمة الخليج التي اندلعت صيف 1990، شلّته، ثم استطاع أن يعقد قمة في الدار البيضاء سنة 1991، كانت هي الأخيرة.

وأثّر الوضع الذي عرفته الجزائر بدءاً من 1992 في مآله، فضلاً عن العقوبات المفروضة على ليبيا في ما يُعرف بقضية لوكربي. ومما زاد الطين بلة فرض المغرب التأشيرة على الرعايا الجزائريين، جراء حادثة إرهابية تعرضت لها مدينة مراكش في أغسطس 1994، وكان القشةَ التي قصمت ظهر البعير قرارُ السلطات الجزائرية إغلاق الحدود البرية بين البلدين، وهو القرار الساري إلى اليوم. وطالب المغرب رسمياً سنة 1995 بتجميد الاتحاد، "والاتحاد" الآن في حكم المشلول.

السياق الذي قامت فيه هذه المؤسسات مخالف لما تناسل في العلاقات الدولية. فشلت هذه المؤسسات في بلوغ الأهداف التي سطرتها، وهو ما يحتّم التفكير في إطار جديد، بناءً على قواعد جديدة، أخذاً بعين الاعتبار السياق الحالي، والتحديات القائمة، وهو ما يسمّيه البعض "وستفاليا عربية"، كما حدث للدول الأوربية حين التقت في وستفاليا سنة 1648، ووضعت حداً للتناحر والحروب الأهلية، وأرست قواعد جديدة في التعامل وحلّ النزاعات، من أجل وضع حدّ للتطاحن الداخلي، وإرساء آليات لحل الخلافات.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي