لطالما كانت أوروبا لاعباً جيوسياسياً مهماً على المسرح العالمي لقرون، من صعود وسقوط الإمبراطوريات إلى تشكيل الدول القومية وإنشاء الاتحاد الأوروبي.
في الآونة الأخيرة، كان هناك نقاش متزايد حول ما إذا كانت أوروبا تتحول من الغرب إلى الشرق وماذا قد يعني ذلك للقارة والعالم على حد سواء.
يعود الانقسام التاريخي بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية إلى حقبة الحرب الباردة. كان الانقسام قائماً بشكل أساسي على الأيديولوجيات السياسية، حيث ارتبطت أوروبا الغربية بالديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة.
في المقابل، ارتبطت أوروبا الشرقية بالشيوعية والاتحاد السوفيتي، وقد أنهى سقوط جدار برلين في عام 1989 والانهيار اللاحق للاتحاد السوفيتي هذا الانقسام، واقتربت العديد من دول أوروبا الشرقية من الغرب، وانضمت إلى الناتو والاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، كان هناك تحول في هذا الاتجاه، حيث اقتربت بعض دول أوروبا الشرقية، مثل المجر وبلغاريا وبيلاروسيا، من روسيا والصين. كان هذا التحول مدفوعاً جزئياً بالمصالح الاقتصادية، إذ أصبحت روسيا والصين شريكين تجاريين مهمين للعديد من دول أوروبا الشرقية، وجزئياً بسبب الاعتبارات الجيوسياسية، حيث تسعى هذه الدول، وبخاصة بلغاريا، إلى موازنة علاقاتها بين الغرب والشرق.
أحد الأمثلة على هذا التحول هو المجر، التي اقتربت أكثر من روسيا والصين في السنوات الأخيرة، على الرغم من كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. انتقدت المجر سياسات الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، في حين اتّهمت حكومتها بتقويض مبدأ سيادة القانون والمؤسسات الديمقراطية في البلاد.
كما تبني المجر علاقات أوثق مع روسيا، بما في ذلك بناء محطة طاقة نووية جديدة باستخدام التكنولوجيا الروسية. وبالمثل، بدأت بولندا بنسج علاقات أكثر دفئاً مع الصين، بما في ذلك توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية في عام 2019.
أثار هذا التحول نحو الشرق مخاوف بين دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، التي تعتبره تهديداً لوحدة أوروبا وأمنها. ويرون بأن الدول التي تقترب من روسيا والصين أصبحت عرضة لتأثير هذه الدول وربما تعرّض قيمها ومؤسساتها الديمقراطية للخطر.
هناك أيضاً مخاوف بشأن التأثير المحتمل على العلاقة ما بين ضفتي الأطلسي، إذ ترى الولايات المتحدة أوروبا حليفاً وشريكاً مهماً. غير أن آخرين يرون بأن هذا التحول نحو الشرق هو تطور طبيعي وقد يفيد أوروبا. وأشاروا إلى أن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي قد توسعوا لدرجة أن روسيا تعتبرهم بمثابة تهديد، مما أدى إلى نهج أكثر تصادمية من قبل روسيا تجاه الغرب.
يمكن لدول أوروبا الشرقية، من خلال بناء علاقات أوثق مع روسيا والصين، تقليل التوترات وتعزيز الاستقرار الإقليمي. ترى هذه الدول بأن هذا التحول قد يساعد في إعادة التوازن إلى النظام العالمي، الذي هيمن عليه الغرب على مدار قرون.
إن الآثار المترتبة على هذا التحول نحو الشرق بالنسبة إلى أوروبا والعالم معقدة ومتعددة الأوجه. فمن ناحية، قد يؤدي ذلك إلى تعاون إقليمي أكبر واستقرار أكبر. من ناحية أخرى، قد يخلق أيضاً خطوط صدع وتوترات جديدة داخل أوروبا وبين أوروبا والولايات المتحدة.
قد يكون لها أيضاً تداعيات أوسع على توازن القوى العالمي حيث أصبح العالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، خصوصاً مع ظهور الصين وروسيا لاعبَين مؤثِّرين على المسرح العالمي.
تتمثل إحدى النتائج المحتملة لهذا التحول نحو الشرق في ظهور كتلة أوراسية جديدة تتكون من روسيا والصين والعديد من البلدان في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.
تمثل هذه الكتلة تحدياً كبيراً للنظام العالمي الحالي الذي يهيمن عليه الغرب ويمكن أن تعيد تشكيل ميزان القوى العالمي. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تفكك الاتحاد الأوروبي، حيث تعطي بعض دول أوروبا الشرقية الأولوية لعلاقاتها مع روسيا والصين على علاقاتها مع أوروبا الغربية.
الصراع في أوكرانيا والميل الأوروبي نحو الشرق
أدى الصراع الدائر في أوكرانيا إلى توتر العلاقات بين أوروبا وروسيا وبين أوروبا والولايات المتحدة. بينما اتخذت الولايات المتحدة نهجاً أكثر تشدداً تجاه روسيا، فإن بعض الدول الأوروبية مثل سلوفاكيا وبلغاريا والمجر لا تزال أقرب إلى روسيا وأكثر حذراً، بخاصة تلك التي تعتمد بشدة على إمدادات الطاقة الروسية.
أدى ذلك إلى توترات بين الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما بشأن قضايا مثل خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2. كما أثار الصراع أيضاً تساؤلات حول مستقبل العلاقة على ضفتي الأطلسي، حيث اقترح بعض الخبراء أن انتقاد إدارة ترمب الواضح تجاه الناتو والاتحاد الأوروبي قد أضعف التحالف وقوّض القيادة الأمريكية في أوروبا.
ساهم الصراع في أوكرانيا أيضاً في إبراز الشعور بانعدام الأمن وعدم الاستقرار في المنطقة، إذ تسعى روسيا إلى إقامة مجال نفوذ في أوروبا الشرقية. سلط الخلاف في القارة الضوء على المصالح المعقدة والمتضاربة في كثير من الأحيان لمختلف البلدان الأوروبية وأثار تساؤلات حول الاتجاه المستقبلي للسياسة الخارجية الأوروبية.
إن مسألة ما إذا كانت أوروبا تتحول من الغرب إلى الشرق هي مسألة معقدة ومتعددة الأوجه. ففي حين أن عدداً من دول أوروبا الشرقية تبني علاقات أوثق مع روسيا والصين في السنوات الأخيرة، فإن العديد من دول أوروبا الشرقية لا يزال متحالفاً وبشدة مع الغرب.
لا تزال تداعيات هذا التحول على القارة الأوروبية والعالم وما يرتبط به من مخاطر وفرص غير واضحة.
في نهاية المطاف، سيعتمد الاتجاه المستقبلي لأوروبا على مجموعة من العوامل، بما في ذلك الاعتبارات السياسية والاقتصادية والأمنية، فضلاً عن الخيارات التي تتخذها الدول وقادتها بشكل فردي.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.