يكثر الحديث مُؤخرّاً عن وجود "دولةٍ عميقة" ناشئةٍ بالجزائر، وأكثر أصابع الاتهام مُتوجّهةٌ نحو مدير جهاز المخابرات السابق "الجنيرال توفيق"، مُتهمةً إيّاه بأنّه يقود بشكلٍ سرّيٍ منذ عزله سنة 2015 ما يُشبه كياناً موازياً للدولة، مستفيداً من شبكة الولاءات التّي كوّنها حينما كان على رأس جهاز المخابرات قُرابة ربع قرنٍ.
لكنّ العارف بطبيعة النظام السياسي الجزائري يعلم تماماً بأنّ الجنيرال توفيق، أي المخابرات والمؤسّسة العسكرية عموماً كانت هي الدولة دوماً. هي المُقرّر ولم تكن أبداً دولةً عميقةً أو كياناً موازناً لأحد.
وإذا علمنا مصدر هذه الاتهامات سوف نفهم بالضبط لماذا يُراد لصق هذه التُهمة بتوفيق. فهي اتهامات صادرةٌ بالأساس عن شخصياتٍ محسوبةٍ على مؤسّسة الرئاسة التّي يُهيمن عليها اليوم شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة الذّي كان وراء عزل الجنيرال توفيق من منصبه لخصومةٍ تنامت بينهما.
إنّ وصف "الدولة العميقة" ينطبق على الجماعة التّي تكوّنت في حضن الرئاسة بقيادة شقيق الرئيس أكثر من انطباقها على الجنيرال توفيق.
في الحقيقة، إنّ وصف "الدولة العميقة" ينطبق على الجماعة التّي تكوّنت في حضن الرئاسة بقيادة شقيق الرئيس أكثر من انطباقها على الجنرال توفيق لأسبابٍ عديدةٍ أهمّها: أنّ شقيق الرئيس هو الطرف المُستحدث في النظام بينما كان الجنرال توفيق هو الدولة ذاتها ولأكثر من ربع قرن.
منذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى الحكم بدأ النظام الجزائري يعرف تصاعداً للعبة الأجنحة المتنافسة داخله. فقد دخل بوتفليقة -الذّي جاء أصلاً بتوافقٍ بين المخابرات والجيش- في "لعبةٍ طويلةِ النَفَس" بهدف استرجاع قوّة وصلاحيات المؤسسة المدنية على حساب المؤسسة العسكرية، محاولاً الاستفادة من الخلافات البينية بين رموز الجيش والمخابرات على المستوى الداخلي.
عملت واشنطن على زيادة نفوذها داخل النظام الجزائري في مقابل محاولة تحييدها لأيّ نفوذٍ روسي وذلك عبر دعم صلاحيات مؤسّسة الرئاسة على حساب الجيش والمخابرات.
أمّا على المستوى الخارجي فقد أدّى انفتاحه على الغرب إلى تنامي العلاقات الجزائرية-الأمريكية بشكلٍ غير مسبوق. لقد رأت واشنطن في بوتفليقة ومؤسّسة الرئاسة فرصةً مناسبةً لبناء علاقاتٍ واعدةٍ مع الجزائر منذ مطلع الألفية الجديدة، خاصّة وأنّ هذه الألفية بدأت بحرب واشنطن على ما تُسمّيه "بالإرهاب الدولي". وقد كانت الجزائر من أكثر البلدان خبرةً في محاربة الإرهاب آنذاك. وهنا بالضبط بدأ البعض يتحدّث عن "جناح أمريكا" المتنامي داخل النظام الجزائري.
منذ تلك الفترة، عملت واشنطن على زيادة نفوذها داخل النظام الجزائري في مقابل محاولة تحييدها لأيّ نفوذٍ روسي (أو صيني أيضاً)، وذلك عبر دعم صلاحيات الفاعل المدني المنفتح على الغرب (مؤسّسة الرئاسة) على حساب الفاعل العسكري (الجيش والمخابرات) والذي يعتبر روسيِّ البُنية والتسليح والذهنية العسكرية، إلى أن تمكّنت مؤسّسة الرئاسة من توسعة صلاحياتها بشكلٍ غير مسبوقٍ على حساب الجيش والمخابرات الذيْن تعرّضا إلى "تقليمٍ مُمنهجٍ للأظافر" وبقيا بحكم "الصلاحيات الإمبراطورية" للرئيس تحت سُلطته.
وقد كانت طريقةً ذكيةً من الولايات المتحدة (بالتعاون مع فرنسا) في إبقاء أيّ تنامي لنفوذٍ روسيٍ محتملٍ على القرار السيادي الجزائري تحت السيطرة والتحييد، وقد بدت ملامحُ نجاح هذا التكتيك منذ سنة 2013، حينما مرض الرئيس ونجح شقيقه في الهيمنة على قصر الرئاسة بدعمٍ أمريكي-فرنسي مكّنه من تمرير عهدةٍ رابعةٍ سنة 2014، ثمّ إبعاد خصمه اللدود الجنرال توفيق.
إلى جانب ذلك، فقد ساعدت واشنطن في خلق أذرعٍ ماليةٍ لمؤسّسة الرئاسة، أو ما صار يُعرف في الجزائر "بسلطة رجال المال والأعمال" المُؤطَرين ضمن منتدى رؤساء المؤسّسات الجزائريين بقيادة علي حدّاد، الذّين صاروا يلعبون دوراً متنامياً يصبّ في صالح واشنطن حتّى صار من شبه المستحيل الإقتراب من نفوذهم المحمي من طرف السلطة.
تُذكّرنا هذه العلاقة الجديدة للمال بالسياسة في الجزائر بنظرية "النُخبة المسيطرة" أو "المركّب الصناعي-العسكري" كما تُسمى أيضاً للأمريكي رايت ميلز، تُحاجج هذه النظرية بالدور الفاعل للتحالف القائم بين رجال الأعمال، أصحاب الشَرِكات الصناعية والعسكرية من جهة وبين صنّاع القرار من جهةٍ أخرى في توجيه بعض السياسات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.
فالقرارات السيادية الكبرى لا تُأخذ إلاّ بعد أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح هذه الشَرِكات، بل إنّ أصحابها عادةً ما يدفعون الدولة إلى خوض حروبٍ لا لشيء إلاّ بهدف تصدير مُنتجاتهم وتحقيق الأرباح، وبتحالفهم يُشكّلون ما يُشبه بالكيان الموازي للدولة.
ساعدت واشنطن في خلق أذرعٍ ماليةٍ لمؤسّسة الرئاسة أو ما صار يُعرف في الجزائر "بسلطة رجال المال والأعمال" المُؤطَرين ضمن منتدى رؤساء المؤسّسات الجزائريين بقيادة علي حدّاد الذّين صاروا يلعبون دوراً متنامياً يصبّ في صالح واشنطن.
وهناك الكثير من الأمثلة عن شخصياتٍ تُؤدّي هذا الدور الوظيفي للكيان الموازي في الجزائر، فإلى جانب علي حدّاد ومنتداه، يُشار أيضاً إلى السيّد شكيب خليل المدير العام السابق لمجمع سونطراك (الشركة النفطية الأكبر في الجزائر) الذّي اتُهم باختلاسات كُبرى –خرج منها بريئاً.
الأمر المُتخوّف منه الآن، أن يظّل رموز السلطة الحاليون يُسيّرون الجزائر ويظلّ معهم أصحاب المال النافذين محميّين يخترقون الدولة والمجتمع بشكلٍ يشبه كياناً موازياً يُمكن أن يتحوّل إلى "حصان طروادة" في يدّ القوى الأجنبية الداعمة له في أيّة لحظةٍ ضدّ المصالح العليا للبلاد.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.