السوشيال ميديا.. ما بين الحريات الطبيعية ومقتضيات الأمن
أعرب الرئيس أردوغان في "القمة الدولية للاتصال الاستراتيجي" التي نظمتها دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، بإسطنبول، عن حرص بلاده على التعاطي بطريقة أكثر حزماً مع منصات التواصل الاجتماعي لما لها من دور في نشر الأخبار الكاذبة ومساهمتها في حملات التضليل.
تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي في عالم اليوم  (Others)

وقد كان لافتاً في خطاب أردوغان ربطه بين الاتصال والجوانب العسكرية والدفاعية معتبراً إياها من ضمن القضايا الاستراتيجية التي يجب عدم الاعتماد فيها على الأطراف الخارجية.

ما يلمح إليه الرئيس أردوغان بهذا الحديث هو أن تركيا التي استطاعت عبر العقدين السابقين تخفيف اعتمادها على الخارج في عمليات التسلح، باتت على قناعة بضرورة التوجه نحو تقليل الاعتماد على الخارج في قضايا الاتصالات وعلى رأسها منصات التواصل الاجتماعي العابرة للحدود. ووفق تعبير الرئيس "بما أننا لا نعتمد كلياً على الأجانب في الصناعة الدفاعية والشؤون العسكرية، لا يمكننا ترك قضية الاتصالات للآخرين". وأضاف: "مثل القضايا الاستراتيجية الأخرى، علينا أن نأخذ الأمور المتعلقة بالإعلام والاتصال بأيدينا".

ربط الرئيس أردوغان قضايا الاعلام والاتصال بالقضايا الاستراتيجية وهو ما يعتبر انعكاساً للوعي العالمي الذي بات يتشكل حول الخطر الذي تمثله منصات التواصل الاجتماعي في قضايا الأمن القومي. فما يسمى بحروب الجيل الخامس، أو الحروب الهجينة التي أصبحت تزج بالإعلام في صلب الأدوات التي تلجأ إليها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية في مجالات الدفاع والحرب والمتمثلة في سلب العدو أو الخصم مصادر قوته وجعله في المعركة في حالة ارتباك غير قادر معها على اتخاذ القرارات السليمة وهو ما يقلل من فاعليته في عمليات الرد أو الردع.

إن التلاعب الإعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي والذي ينضوي تحته الكثير من ظواهر الصراع المعلوماتي مثل الأخبار الكاذبة، والتضليل، والبروباغندا، بات ضمن بعض الأدبيات الدفاعية يندرج تحت بند القوة الحادة والتي من خلالها تقوم الحكومات بتحقيق أهدافها من خلال استخدام واحدة من أدوات القوة الناعمة لتحقيق هدف صلب. إن سلب العدو أو الخصم من مصادر قوته يعتبر هدفاً صلباً، وفي هذه الحالة يجري استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وهي أداة ناعمة لتحقيقه في الكثير من الأحيان.

وقد رأينا العديد من الشواهد التي تثبت ذلك، يكفي النظر إلى الانتخابات الأمريكية عام 2016 وتنصيب الرئيس السابق دونالد ترمب، وفضائح كامبردج أناليتيكا، وانتخابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت). هذا فضلاً عن تسريبات ماكرون في الانتخابات الفرنسية عام 2017، ومجزرة المسجدين في نيوزيلندا التي راح ضحيتها العشرات من المصلين الأبرياء على يد أحد متطرفي اليمين العنصري الأبيض والذي بث المجزرة على المباشر في فيسبوك في محاكاة لإحدى الألعاب الالكترونية، وحملات التطهير العرقية في بورما، والاعتداءات المتكررة على المسلمين في الهند والتي لعبت فيها حملات التضليل دوراً كبيراً.

تركيا ذاتها عانت من العديد من حملات التلاعب الإعلامي التي استهدفت سواء جبهتها الداخلية أو سياستها الخارجية. لقد اسُتخدمت تركيا كمادة في انتخابات البريكسيت للتخويف من خطر المهاجرين، فضلاً عن تصوير مساعدتها للحكومة الليبية إبان هجوم حفتر لاحتلال العاصمة طرابلس كأنه غزو خارجي وليس مساعدة قامت بها بناء على طلب من حكومة معترف بها دولياً هي حكومة عبد الحميد السراج آنذاك.

لقد استتبع كل هذا ما بات يعتبر كصرخة عالمية حول الخطر الذي تمثله هذه الظاهرة، أي ظاهرة التلاعب الإعلامي، على الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا ما أكد عليه الرئيس أردوغان في خطابه، إذ اعتبر أن هذه المنصات التي اعتبرت في البداية ملجأ لدعاة الحرية من قبضة الأنظمة السلطوية أصبحت لاحقاً أداة في تخريب الوعي وحرمان شريحة واسعة من الناس من التمتع ببيئة إعلامية نظيفة يحصلون منها على معلوماتهم وأخبارهم بطريقة سوية بعيداً عن تشويه الأخبار الكاذبة وغيرها من الآفات الإعلامية. ففي معرض حديثه أكد أردوغان على أن الحكومة التركية تحاول "حماية شعبها وخاصة الفئات الضعيفة في المجتمع، من الأكاذيب والمعلومات المضللة دون انتهاك حق مواطنينا في تلقي معلومات دقيقة ومحايدة."

وفي هذا الصدد، تعتزم الحكومة التركية سن تشريع جديد يفرض مزيداً من الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي تجاه مكافحة ظاهرة التلاعب الإعلامي. وحسب تقارير إعلامية تركية فإن التشريع الجديد سيعاقب على نشر "المعلومات المضللة" و"الأخبار الكاذبة" بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات. كما أنه سيؤسس منظماً لوسائل التواصل الاجتماعي. وكانت الحكومة التركية قد أقرت العام الماضي قانوناً يطالب منصات التواصل الاجتماعي التي لديها أكثر من مليون مستخدم بالحفاظ على ممثل قانوني لها على الأراضي التركية وتخزين البيانات في البلاد. منذ ذلك الحين، أنشأت شركات وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى، بما في ذلك Facebook و YouTube و Twitter، مكاتب في تركيا. فالبيانات، وفق الحكومة التركية، لم تعد مجرد نقرات رقمية، بل أصبحت رصيداً استراتيجياً يجب أن يحفظ داخل الحدود السيادية للدولة ومنع انتهاكها من قبل القوى الخارجية.

بطبيعة الحال أثارت هذه الخطوات قلق المدافعين عن حرية التعبير، فهناك تخوف من أن الإجراءات الحكومية سواء في تركيا أو غيرها من الدول تجاه فرض مزيد من الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي من شأنها أن تقوض حرية التعبير. وهو تخوف مشروع، فنحن نعيش في معضلة حقيقية بين حرية التعبير وبين مقتضيات الأمن.

وهذا ما التفت إليه سابقا الرئيس الأمريكي باراك أوباما على إثر فضيحة تسريبات سنودن إذ اعترف أن مقتضيات الأمن القومي تفرض التضييق على بعض الحريات ومنها حرية التعبير عن الرأي. ووفق منظري المدرسة الهوبزية، فإن التنازل عن بعض الحقوق الطبيعية مقابل الحفاظ على الأمن يعتبر أحد دعامات العقد الاجتماعي للدولة الحديثة القائمة على السيادة الوطنية.

من المبكر الحكم على قدرة الحكومات في التوفيق بين بعض الحريات مثل حرية التعبير وبين مقتضيات الأمن القومي والذي يدخل ضمنها أمن الفرد وفق التعريفات الجديدة لمفهوم الأمن. ولكن ما بات مؤكداً هو ضرورة اتخاذ خطوات صارمة تجاه ظاهرة التلاعب الإعلامي لما لها من تداعيات جوهرية على حقوقنا الطبيعية ومنها حق الوصول إلى معلومات حقيقية. إن التلاعب بالحقيقية، وإنتاج الحقيقية المزيفة، يمس أيضاً أحد أبرز حقوقنا الطبيعية. ومن نافلة القول أن الحقيقة المزيفة أصبحت واقعاً ملموساً، الأمر الذي دعا العديد من المعاجم إلى إدخال لفظ ما بعد الحقيقية Post-truth لوصف العصر الذي نعيش فيه حاليا.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي