العوائد الاقتصادية لقناة إسطنبول
المستقبل هو جزء لا يتجزأ من مقوّمات الحياة الإنسانية، والمستقبل امتداد للحاضر، ومن ثمّ يتطلب استكشافاً فعّالا ودقيقاً لفهم الواقع، ثمّ خلق التصاميم والتدابير والترتيبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفعّالة لخلق العالم  الذي يتطلع إليه الإنسان.
قناة إسطنبول (TRT World)

ويستلزم النهوض التنموي المستدام إيجاد الفِرق الاستكشافية التي تُعنى بتخطيط السيناريوهات المستقبلية وتطويرها، وهي الفِرق التي تمتلك المواهب وبُعد النّظر الاستراتيجي الذي يقدّم تصورات ربّما لا يلتفت إليها الكثيرون، بل وفي كثيرٍ مِن الأحيان يقابلونها بالرفض والاستهجان.

ومشروع قناة إسطنبول هو أحد ثمار عقول هؤلاء الإستراتيجيين، بانطلاقها مِن الواقع الذي يعاني مشاكل متعددة وبتحقيقه ليس فقط حلاً لتلك المشكلات بل تحقيق العديد مِن المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية في آن واحد.

فمشروع القناة الموازية لمضيق البوسفور لخلق رابط جديد بين البحر الأسود وبحر مرمرة، يحاول حلّ الاختناق المروري الحاد الذي يعانيه المضيق حاليا، والذي يعتبر الأعلى على الصّعيد العالمي.

وبحسب بيانات وزارة المواصلات والبنية التحتية التركية، بلغ عدد السّفن المارّة من مضيق البوسفور في عام 2019 حوالي 41 ألفا و112 سفينة، وطبقاً لوزير المواصلات التركي فإن المتوسّط السنوي لحركة مرور السفن في مضيق البوسفور يتراوح بين 40 و42 ألف سفينة، علمًا أنّ طاقة المضيق الاستيعابية تبلغ 25 ألف سفينة سنوياً فقط.

وبسبب هذا الازدحام الكثيف فقد سجل مضيق البوسفور خلال 2019، ما مجموعه 15 حادث سفن، و141 حالة تعطل للسّفن، بالإضافة إلى الأضرار البيئية المتعددة التي يخلّفها هذا الازدحام، وقد رأينا جميعا أثناء الإغلاق الكامل لمواجهة انتشار فيروس كورونا، والتوقف النسبي للملاحة كيف عادت الأحياء المائية تلهو عياناً في المضيق.

وبتحويل مضيق البوسفور إلى خطٍ ثانوي للمِلاحة، ستتخلّص تركيا من تسعيرة المرور المخفّضة عن السّفن التي تعبر المضيق، تبعاً لاتفاقية مونترو التي وُقّعت في المدينة السويسرية عام 1936 لتنظيم الملاحة في المضايق والممرات المائية التركية، والتي تتسبب في استمرار العوائد الهزيلة للمضايق التركية قرابة قرن كامل.

وربما يكفي للتدليل على هزليّة هذه العائدات أنّ جملة عائدات مضيقي البوسفور وجناق قلعة خلال عام 2019 بلغت نحو 794 مليونا و290 ألفاً و800 ليرة (136 مليون دولار) فقط، مِن الخدمات المقدمة للسفن أثناء عبورها مثل الإنارة، والإرشاد، والإنقاذ، وقطر السفن، في مقابل 5.6 مليار دولار عائداً لقناة السويس عام 2020.

وستمنح القناة الجديدة لتركيا أفضلية تنافسية كبيرة في التجارة الدولية، لا سيّما في ظل مرور أكثر مِن 75% من هذه التجارة عبر البحار، بالإضافة إلى العدد الهائل مِن السفن الذي يبلغ أكثر مِن ضعفي عدد السفن التي تمر من قناة السويس، والتي عبرها 19 ألف سفينة فقط عام 2020، وأكثر من ثلاثة أضعاف السفن التي عبرت قناة بنما في نفس العام والتي بلغت 14 ألف سفينة.

كما ستمنح القناة الجديدة لتركيا الحصول على 5.5 دولار عن كل طن مِن البضائع وحمولات السفن التي تعبرها يومياً، بعائدات إجمالية مقدرة بنحو 8 مليارات دولار سنويًا، وهو ما يُسهم في تغطية تكاليف شق القناة المقدرة بحوالي 15 مليار دولار خلال عامين فقط، وفي العام الثالث تغطّي تكلفة الإنشاءات المجاورة لها والمقدرة بنحو 10 مليار دولار.

وتشير الأرقام السابقة إلى الدراسة المستفيضة السابقة للمشروع، وإلى أنّه ليس مشروعاً استعراضياً من السلطة غرضه دغدغة مشاعر الجماهير وزيادة الشعبية، فالجدوى الاقتصادية الكبيرة للمشروع، ليست فقط من خلال عدد سنوات استرداد رأس المال، وإنما أيضا من خلال العائد السنوي الكبير الذي سيساهم في ردم نسبةٍ لا يُستهان بها من الفجوة في النقد الأجنبي التي تعانيها تركيا تاريخياً بسبب اعتمادها على استيراد البترول والغاز من الخارج، والتي تتسبب في انخفاض سعر الليرة، وتأجيج معدلات التضخّم، بما يخفّض المستوى المعيشي للمواطنين.

ومؤخراً أعلن الرئيس أردوغان أن حكومته أوشكت على إتمام الاستعدادات اللازمة من أجل مشروع شق قناة إسطنبول، التي طالما اعتبرها الرئيس مشروعه الأهم، ودافع عنها بقوة ضد الأصوات المناوئة، متسلحاً بنظرة إستراتيجية لا يخطئها غير أصحاب الهوى الغربي، أو الوهم الانقلابي.

فبالإضافة للبُعد الاقتصادي، تتداخل أبعاد عدة أخرى مع المشروع الواعد، فهو في صُلب البُعد الأمني والعسكري، لو أخذنا تغيّر مسارات السّفن الحربية التركية والغربية، لا سيّما بعد رفع طاقة الملاحة الجوية مع مطار إسطنبول الجديد، كما أنه في صميم البُعد القانوني بالقفز على بنود اتفاقية مونترو، دون الإخلال بها، تخلصاً مِن شروط التبعية، ومن الهدر المالي.

كما أنه يصبّ في صميم تعميق المزايا الإستراتيجية للجمهورية الناهضة، التي ما فتئت تحطّم قيودها الموروثة، بضمان ورقة إستراتيجية مهمّة تشكّل قوّة داعمة للصادرات المحلية الآخذة في التصاعد، وظهيراً إستراتيجياً قوياً للطموحات المشروعة بشغل أحد المراكز الاقتصادية العشرة الكبرى في العالم.

قد يكون للمشروع بعض الآثار الجانبية بيئياً، وهكذا حال كل النشاط الإنساني، كما قد يحمل تهديداً كبيراً لدول البحر الأسود وعلى رأسها روسيا، التي ترى أن تمتّع سفن حلف الناتو، الذي تشكّل تركيا القوة الثانية فيه، بحُريّة الملاحة في القناة الجديدة يُمثل مصدراً كبيراً للإزعاج، وهو ما يفسّر بيان جنرالات البحرية ذوي الميول اليسارية المعارضة لإنشاء المشروع، ولكن فوائده الكبيرة تمحو مثل هذه الآثار.

هناك جملٌة إذن مِن المنافع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية علاوة على المنافع الجيواستراتيجية للمشروع الوليد، الذي لن يغيّر من الجغرافيا المحلية للدولة التركية فقط، بل سيغيّر الجغرافيا الإقليمية والدولية.

فقناة إسطنبول لن تكون مساراً للمواصلات المحلية بل مساراً للتجارة والطاقة والاقتصاد والمواصلات والتكنولوجيا في المنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي