تركيا والغرب .. من البعد الأمني إلى إعادة تعريف الذات
منذ أن تقلد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن منصبه والكثير من التحليلات السياسية، من هنا وهناك، تتحدث عن توجهات إدارته تجاه بعض القضايا الحساسة على مستوى السياسة الدولية.
الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأمريكي جو بايدن (Reuters)

كل ذلك طمعاً في محاولة فهم السياسات التي سوف تتخذها هذه الإدارة تجاه هذه الملفات. وإذا كانت هناك بعض الملفات قد حظيت بالأضواء جراء حساسيتها، كالملف النووي الإيراني على سبيل المثال، فإن أخرى قد تصدرت بفعل تعقيداتها الكبيرة. وهنا تبرز العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا.

بشكل عام، ذهبت غالبية التحليلات إلى المنحى السلبي في تقييم علاقة واشنطن وأنقرة في السنوات المقبلة بناء على عدة معطيات، ربما أهمها البعد الشخصي للرئيسين الأمريكي بايدن والتركي أردوغان، اللذين لا تجمع بينهما تلك الكيمياء التي جمعت يوماً بين الرئيس أردوغان والرئيس السابق دونالد ترمب، والتي أدت بدورها إلى كبح تدهور العلاقات بين البلدين في الكثير من المحطات الحساسة، على رأسها العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا ضد مليشيا PYD الإرهابية المدعومة أمريكياً تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش الإرهابي.

في المقابل، لم تغب بعض التحليلات عن النظر بنوع من الإيجابية إلى مستقبل العلاقات بين البلدين، وذلك بناء على رغبة إدارة بايدن في وضع حد للسياسات "الاستفزازية" لروسيا بوتين. وهي في مسعاها هذا فإن حليفاً مثل تركيا يصبح لا غنى عنه.

ولكن سريعاً اصطدمت هذه النظرة الإيجابية ببعض الوقائع التي ربما تضع حداً لتفاؤلها الحذر. فمؤخراً ظهرت بوادر توتر بين الطرفين الأمريكي والتركي على مستوى التصريحات الرسمية، حيث عبر الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيك برايس عن نفي بلاده القاطع أي علاقة لها بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا عام 2016 التي قامت بها جماعة فتح الله كولن، وهو رجل دين تركي مقيم في الولايات المتحدة.

وأكد بيان وزارة الخارجية إدانة الولايات المتحدة لهذا الفعل، أي عملية الانقلاب، وأن أي حديث ينافي ذلك لا يعدو كونه "زائفاً"، وذلك في إشارة إلى تصريحات تلفزيونية لوزير الداخلية التركية سليمان صويلو ألمح فيها إلى دور ما للولايات المتحدة في عملية الانقلاب.

في الحقيقة، إن المطلع على تصريحات الوزير التركي سوف يلحظ مقدار التوتر الذي يسود الأجواء بين البلدين. فالوزير لم يعلن صراحة ضلوع الولايات المتحدة وإنما تحدث عن مكان وجود فتح الله كولن في أثناء الانقلاب، حيث يقيم في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن تعريض الوزير استجلب بياناً من وزارة الخارجية الأمريكية بهذه الحدة.

في الواقع، لا يعدو الاتهام ورد الاتهام بين واشنطن وأنقرة حول العملية الانقلابية إلا واحداً من الملفات الشائكة بينهما مثل منظومة الدفاع الجوي S-400 التي اشترتها تركيا من روسيا، وعلاقة واشنطن بالمليشيات الكردية في شمال سوريا والتي تصنفها تركيا منظمات إرهابية.

إن تتبع هذه الملفات الشائكة كل على حدة قد يكون مضللاً في تقييم العلاقة بين البلدين. على العكس ينبغي النبش في أصل هذه العلاقة، والأسس التي بنيت عليها في العقود الأخيرة، وهو ما يمكن أن يفسر لماذا وصلت إلى هذا الحد من البرود.

جزء من منظومة S-400 الروسية تصل إلى تركيا  (AP)

ومن خلال إمعان النظر يبدو أن هناك محددين رئيسيين ساهما في تشكيل العلاقة بين البلدين وإيصالها إلى ما هي عليه الآن. أولاً انتفاء الشرط الأمني في تأسيس العلاقة، وثانياً تنامي دور الهوية في تشكيل العلاقات الثنائية بين الدول على مستوى النظام الدولي وليس على مستوى العلاقة بين تركيا وأمريكا حصراً.

في البداية كان الأساس الذي وطد علاقة تركيا بالغرب أمنياً. فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتفجر الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، حظيت تركيا كغيرها من الدول التي تقع على الطرف الشرقي من الجغرافيا الأوروبية بأهمية استراتيجية في خطة الولايات المتحدة لاحتواء الاتحاد السوفييتي. ولذلك شُملت تركيا في خطة مارشال لإعادة إحياء أوروبا ما بعد الحرب، كما ضمت لاحقاً إلى حلف شمال الأطلسي.

هذا البعد الجيوأمني الذي أكسب تركيا قيمة استراتيجية في سياسة الولايات المتحدة الدولية بدأ بالتلاشي رويداً رويداً مع انتهاء الحرب الباردة وهزيمة المعسكر الشرقي. ومنذ مطلع التسعينيات، بدأت الأبعاد الهوياتية تحجز مقعدها في خريطة التحالفات الدولية. عبرت عن ذلك بشكل صريح فرضية صدام الحضارات المثيرة للجدل لصامويل هنتنغتون. وقتها لم يعد تحديد الغرب قائماً على التهديد الأمني الذي يفرضه المعسكر الشرقي السوفييتي، بل على التهديد الثقافي والديني. وإذا كانت تركيا ضمن التعريف الأول تعتبر من الغرب وحليفاً موثوقاً له، فإنها وفق الاعتبار الثاني تعتبر في المعسكر المقابل حيث ثقافتها الشرقية وإرثها الديني الإسلامي يجعلانها بشكل طبيعي خارج المعسكر الغربي المسيحي.

تنامي دور الهوية في العلاقات بين الدول فرض إعادة تعريف لهذه العلاقات بشكل عام، فما كان مبنياً على معطيات ثابتة كالتهديدات الأمنية، أصبح البناء يقوم على إعادة تشكيل التصورات من جديد وفقاُ للتفاعلات الآنية. ومن هنا أصبحت الهوية محدداً رئيسياً في تشكيل السياسة الخارجية، ولم تعد السياسة الخارجية ثابتة بل متحركة وفق تشكيل وإعادة تشكيل التصورات.

بدأ التباعد بين تركيا والولايات المتحدة مع أزمة قبرص حيث رفضت واشنطن دعم أنقرة في حماية القبارصة الأتراك من غدر القبارصة اليونانيين، بل قامت بفرض عقوبات عليها تمثلت في حظر توريد السلاح. ثم جاءت الحرب على العراق حينما رفضت تركيا السماح لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة باستخدام أراضيها لغزو العراق. استمرت هذه الوتيرة ذاتها مع مرور الأيام، فصعود التيار المحافظ الإسلامي إلى سدة الحكم في تركيا، والموقف من الأزمة السورية، والمسألة الكردية، إلى صفقات الأسلحة، كلها عوامل ساهمت في تشكيل هوية تشكك في متانة الحلف بين البلدين، وهو ما عبر عنه بلينكن مؤخراً في حديثه ضمن جلسة استماع أمام الكونغرس عندما قال عن تركيا أو "ما تسمى حليفتنا"، وكأنه يشكك في صدق ومتانة هذا التحالف.

كما لم تساعد العلاقة مع أوروبا على تمتين الترابط بين تركيا والغرب عموماً. فعلى مدار أكثر من أربعة عقود بقيت تركيا على طابور الانتظار للظفر بالعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي على الرغم من التزامها بإجراء جميع الشروط بالشكل الكافي. بالأخير جوبهت أنقرة بفيتو فرنسي ألماني مشترك، في حين تم قبول قبرص واليونان اللتين مارستا ضغوطاً كبيرة لإبقاء تركيا خارج الاتحاد، حتى بات ينظر للاتحاد على أنه نادٍ مسيحي صرف، وأن تركيا كبلد مسلم غير مرحب به إطلاقاً، بغض النظر عن جميع الخلافات الجيوسياسة بينهما.

إن شرط تحسين علاقة تركيا بالولايات المتحدة وبالغرب عموماً لا يتوقف على بعض القضايا الهامشية هنا وهناك، بل هو جوهري يتعلق بتعريف الذات والآخر. وما دامت أوروبا وأمريكا تتبنيان التعريفات الهوياتية في تعاطيهما مع الآخر فإن العلاقة مع تركيا سوف تبقى في شد وجذب. وليس مستغرباً، والحال كهذه، أن تتصدر الولايات المتحدة أكثر الدول التي تشكل مصدر تهديد لتركيا وفق العديد من استطلاعات الرأي.


جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي