تمرُّد إقليم التغراي وتحدياته الإقليمية على إثيوبيا
يوجد ما يشبه القناعة لدى المحللين المختصين بالقرن الإفريقي أن الأحداث التي تجري في إثيوبيا الآن سيكون لها تأثيرات كبيرة في المشهد الداخلي والخارجي بالبلاد، وأن أي حسم بأي اتجاه سيولّد حقائق جديدة على الأرض ستعقد الواقع أكثر.
This frame grab from a video obtained from the Ethiopian Public Broadcaster (EBC) on November 4, 2020, shows Ethiopian Prime Minister Abiy Ahmed saying that he is ordering a military response to a deadly attack by the ruling party of Tigray, a region locked in a long-running dispute with Addis Ababa, on a camp housing federal troops. (AFP)

وهذه القناعة ناتجة عن حساسية المجتمع الإثيوبي متعدد الأعراق والديانات، والميزان القائم على هذه الفلسفة الخطرة شديدة السيولة، فتمرد حالة عرقية كما هو الحال بإقليم "التغراي" سيؤدي إلى تمرد حالات عرقية خاملة مؤقتاً ستستدعي كل المخاطر والظنون والتخوفات التاريخية القريبة والبعيدة، وتستدعي الرغبة في حماية مجالها الحيوي المعتمد على نسيجها القبلي وأرضها التاريخية وشبكة مصالحها.

وقد أسس رئيس الوزراء الأسبق مليس زيناوي لهذه الأحداث بإعادة النظام العرقي للدولة عبر تقسيمها إدارياً إلى أقاليم كبرى تمثل هذه العرقيات، وتمنحها خصوصيات حكم نفسها في نظام فيدرالي، ولكنه واقع تحت قوة تحكُّم مركزية ذات ذراع عسكرية وأمنية فاعلة، وهذا النظام العرقيّ الحساس هو مصدر الاستقرار المجتمعي كما هو مصدر الاهتزاز أيضاً.

وبالتالي فإن تمرد التغراي في شمال الهضبة الإثيوبية بما يتمتعون به من إمكانات عسكرية واقتصادية ورثوها من الأنظمة السابقة سيفتح الباب أمام القوميات الأخرى للدفاع عن نفسها والاستعداد لمرحلة تغوّل القوى التي ستحسم المشهد القادم أثناء محاولة التموضع، وهذا سيؤدي إلى تجدد المخاوف القديمة وتجدد المطالبات الأساسية الأولى، وستدخل الأزمات بشدة بعد ذلك لا سيما مع وجود قضايا مستعصية مثل قضية الصومال الإثيوبي وقضية بني شنقول وقضايا الهامش وقضايا قسمة الثروة والسلطة.

ونظراً إلى موقع إثيوبيا الحساس وكثرة عداواتها مع جيرانها المتربصين بها أو المتضررين من سياساتها أو المتخوفين منها فإن بوابة التدخّل الإقليمي جاهزة مسبقاً لإيجاد موطئ قدم سريع لها، فتوجد إرتريا التي تعرضت لاحتلال إثيوبي طويل، ولا تزال القوات الإثيوبية داخل حدودها ولم تترجم اتفاقية السلام الأخيرة على الأرض بين الدولتين.

ولا يزال السودان يعاني توتر حدوده مع إثيوبيا وتعرُّضها الدائم للهجمات الإثيوبية المنظمة والتهريب المنظم للموارد السودانية، ولا تزال أصوات قوية في الصومال الغربي تطالب بحق تقرير المصير أو الانضمام إلى البلد الأم في الصومال على الرغم من تراجع هذه الأصوات مؤخراً، ولا تزال قضية مياه النيل تتصاعد بقوة مع دولة المصبّ "مصر" ودولة المعبر "السودان" مع فرض إثيوبيا شروطها بالقوة عبر تنفيذ إنشاءات سد النهضة الضخمة في منابع النيل الأزرق.

في المشهد القادم تتحضر إثيوبيا لفصل حكمٍ عسكريٍّ جديد سيزيد ضغط القبضة الأمنية القائمة أصلاً وسيزيد العزلة الإعلامية أكثر ويقلل مساحة الحريات.

سيكون السودان أمام واحد من تحديات حركة النزوح الإثيوبية من مناطق النزاع المتاخمة لولايتَي القضارف وكسلا، حيث ستشهد الحدود مئات آلاف النازحين من التغراي ومجموعات عرقية أخرى ستستقر في معسكرات بدائية داخل السودان ثم ستتوغل في وسطه، مما سيعزز مخاوف التوطين الإجباري في مناطق النيل الشرقي محدودة السكان؛ كما ستنمو الإشكالات الأهلية الناتجة عن هذا التدفق المحتاج إلى العمل والمعاش، مما سيرهق السودان المرهق أصلاً، والواقع بأتون أزمة سياسية واقتصادية وأمنية عميقة.  

كما ستتدفق موجات هجرة إثيوبية على مصر باتجاه "إسرائيل" مما سيضاعف العبء الأمني على مصر المستنزفَة أساساً في ملفات تسعى لوضع حدّ لمبادرات إثيوبيا في سد النهضة الذي تعده مصر خطراً على أمنها القوميّ، وليس وارداً أن تلجأ مصر إلى اتخاذ إجراء عسكري سريع أو حتى التفكير بتدخّل أمني حاسم في هذا الملف الذي ارتفع حضوره في الأمن القومي الإثيوبي إلى درجة عالية في الأولوية، وذلك بسبب ضعف حضور مصر داخل إثيوبيا حتى لدى الفرقاء المعارضين لحكم آبي أحمد، وتراجع قدرة السودان على استثمار حضورها القوي في شبكة الحدود المشتركة مع إثيوبيا.

وستتعزز مخاوف الرئيس الإرتري أسياس أفورقي من عودة الأطماع الإثيوبية مجدداً إلى بلاده، لا سيما مع وجود قومية التغراي على طول الحدود، الذين كانوا القوة الصلبة في تمثيل هذه الأطماع التاريخية، وسيسعى أفورقي للتحالف مع آبي أحمد لإخماد الثورة في مناطق التغراي من دون أن يعني ذلك عدم حرصه على إضعاف إثيوبيا في مناطق أخرى، وهذا الأمر سيكون مدخل التفاهم مع مصر بحضور أكبر والسودان بحضور أقل.

أما الصومال فسيتخفف أكثر من وطأة السياسة الإثيوبية عليه لخوف إثيوبيا من دخول أطراف صومالية على خط الأزمة وإشعالها روح الاستقلال في إقليم الأوغادين الصومالي مجدداً، والخشية من توتر الحدود الشرقية بعودة بعض المجموعات الإثيوبية العسكرية المعارضة للعمل هناك، ولكن وجود الصومال ضمن المجال الحيوي للنفوذ التركي يجعل الوضع مطمئناً إلى حد ما مقارنة بوجود نفوذ مصريّ مما سمح لإثيوبيا باستقدام قطع عسكرية كبيرة من تلك المناطق الشرقية للمشاركة في عمليات المنطقة الشمالية.

وعلى كل حال فإن نجم إثيوبيا الذي لمع مؤخراً كقوة سياسية واقتصادية قادمة يتعرض الآن لحالة من الإظلام قد يستمر إلى مدى ليس بالقصير.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي