روسيا وموازين القوى الجديدة في القرن الإفريقي
أصبحت تحركات روسيا في منطقة القرن الإفريقي مؤخراً أكثر جدية، وتتسارع بوتيرة متلاحقة منذ العام 2015، ويأتي ذلك في إطار الإستراتيجية الروسية للعودة إلى هذه المنطقة، الأكثر حساسية في العالم والأكثر أضطراباً.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإثيوبي آبي أحمد (AP)

ويأتي ذلك ضمن سياق التمركز العسكري وسباق التسلح الدولي الذي تشهده منطقة البحر الأحمر، وترسيخ الوجود الروسي العسكري في هذا الإقليم شديد الخصوصية، باعتبار أن منطقة البحر الأحمر أحد الأقاليم الفرعية لإقليم الشرق الأوسط، ويقع الإقليم في ما يعرف بقوس عدم الاستقرار الدولي، وهو واحد من أكثر أربعة ممرات مائية ازدحاماً في العالم، والوحيد الذي يواجه سيولة أمنية.

سعت روسيا منذ مجيء فلاديمير بوتين على رأس الحكم في روسيا قبل عقدين لتعزيز وجودها في القرن الإفريقي، وتأكيد حضورها في السياسية الخارجية العالمية، وأن تكون حاضرة في توازن القوى العسكرية.

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020 كشفت صحيفة (بيلد) الألمانية عن وثيقة مسرَّبة من وزارة الخارجية الألمانية، تفيد بأن روسيا وقّعت اتفاقيات تعاون عسكري مع 21 دولة في إفريقيا منذ العام 2015.

كما بدأت إنشاء قواعد عسكرية في إفريقيا الوسطى وموزمبيق والسودان والصومال، رغم أن روسيا لم تفصح بشكل كامل عن وجودها العسكري في القارة الإفريقية ولا منطقة القرن الإفريقي وساحل البحر الأحمر، فمن الواضح أن موسكو حريصة على ممارسة نفوذ عسكري أكبر في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه تتجنب إلى حد كبير اتخاذ موقف علني عن سياستها الخارجية، وتعمل على إدارة هذا الملف بهدوء وبعيداً عن الأضواء.

القاعدة الروسية في السودان

زار الرئيس السوداني السابق عمر البشير موسكو في نوفمبر من العام 2017، من أجل طلب الحماية الروسية، وفك العزلة الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة على الخرطوم، والتي كانت تضع السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، كما أن البشير نفسه مطلوب للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية، التي توجه إليه التهمة بارتكاب جرائم حرب في دارفور، إذ برر البشير طلبه الحماية الروسية بوجود "مؤامرة أمريكية لتقسيم السودان إلى خمس دول".

تمخضت زيارة البشير لموسكو عن إبرام روسيا اتفاقاً مع السودان لإنشاء قاعدة بحرية على السواحل السودانية المطلة على البحر الأحمر، تسعى موسكو من خلالها إلى توسيع نفوذها العسكري في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ونصّ الاتفاق الذى أعلن فى 8 أغسطس/آب 2018 على إنشاء قاعدة عسكرية روسية، يُسمح فيها لروسيا بنشر أربع سفن حربية وما يصل إلى 300 فرد في المنطقة كجزء من اتفاق مدتة 25 عاماً، وستكون هذه أول قاعدة بحرية روسية في إفريقيا.

ومن المتوقع أن يتم استخدام القاعدة كمركز دعم لوجستي ونقطة إصلاح وإعادة إمداد، كما يعطي الاتفاق موسكو الحق في استخدام مطارات السودان لنقل الأسلحة والذخائر والمعدات اللازمة لدعم القاعدة.

لا شك أن القاعدة المقترحة في بورتسودان ستكون أصغر بكثير من القاعدة الروسية في طرطوس على البحر المتوسط في سوريا -المنشأة الوحيدة لموسكو خارج روسيا- لكنها ستمنح روسيا موطئ قدم استراتيجياً على البحر الأحمر.

تواجه اتفاقية البشير-بوتين لإنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر تحديات حقيقية بعد سقوط الرئيس البشير 11 أبريل/نيسان 2019 بثورة شعبية، ومجيء حكومة للفترة الانتقالية مكوَّنة من شقَّين مدني وعسكري، وموالية للولايات المتحدة والغرب.

هذه الحكومة الانتقالية بدأت مترددة من موقفها تجاه القاعدة العسكرية الروسية المرتقبة، ولم تحدّد موقفاً واضحاً وقاطعاً من الاتفاقية.

فبعد الرفض، عادت للموافقة، وأخيراً أعلنت وزيرة الخارجية السودانية مريم المهدى التى زارت موسكو في 15 يوليو/تموز الجاري، أن "أمر الإتفاق المبرم بين موسكو والخرطوم فى عهد الرئيس البشير سيقرّر بشأنه المجلس التشريعي الذي سيُشكَّل في الأيام القادمة"، وبات واضحاً أن حكومة الفترة الانتقالية فى السودان عاجزة عن إلغاء الاتفاقية، كما تناول بعض الوسائط الإعلامية وتسريبات بعض العسكريين السودانيين، بخاصة أن روسيا كانت قد نقلت بالفعل إلى السودان بعض المعدات الخاصة بالقاعدة في وقت سابق من العام الجاري.

روسيا في إثيوبيا

تمكنت الولايات المتحدة في وقت سابق من حرمان موسكو من بناء قاعدة لها في جيبوتي بالضغط على الرئيس عمر قيلي، كما تمارس ضغوطاً على الحكومة الانتقالية في السودان من أجل فسخ اتفاق البشير مع بوتين من أجل بناء قاعدة بحرية. إلا أن روسيا تستغلّ فرصة تطور العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا من أجل إقامة قاعدة بحرية لها على البحر الأحمر، مستغلة التوترات بين إثيوبيا والسودان ومصر بشأن سد النهضة، والتهديدات العسكرية التى تواجهها إثيوبيا، وإمكانية توجيه ضربة عسكرية لها من قبل مصر.

في الوقت الذي تواجه فيه إثيوبيا ضغوطاً هائلة من قبل الولايات المتحدة والمنظمات الغربية الإنسانية، بخصوص الانتهاكات الإنسانية المصاحبة للعمليات العسكرية في إقليم تيغراي، والدعم العسكري الذي يجده متمردو الإقليم من قبل أمريكا والغرب.

وجدت موسكو الفرصة سانحة لتوقيع اتفاق عسكري مع إثيوبيا فى 16 يوليو/تموز 2021، مُحدِثة ثغرة في جدار الهيمنة الأمريكية في القرن الإفريقى، في سعيها الرامي إلى إحداث لحظة توازن، وتمركز يحقّق مصالحها العسكرية وتمتين رؤاها الخارجية، مستفيدة من الوجود الروسي الذي شارك في مكافحة القرصنة والإرهاب الموجود بالقرب من باب المندب منذ العام 2008.

وقد سعت روسيا كغيرها من الدول الأخرى في إيجاد قاعدة عسكرية لها في جيبوتي حسب ما نشرته الجريدة الروسية "كومرسنت" فى مايو/أيار من العام 2015: سبق وأن عبرت روسيا فى العام 2012 عن اهتمامها بإقامة قاعدة عسكرية تعزز وجودها في جيبوتي، لا سيما من أجل طيرانها، وقد حصلت مفاوضات في الفترة من أبريل 2012 إلى نوفمبر 2013 حول هذا الموضوع، ودارت نقاشات دقيقة حول حجم المساحة التي ستوضع حصريّاً على ذمة روسيا، ولكن تطورات القضية الأوكرانية فى العام 2014 والضغوط الأمريكية على الرئيس قيلى أجلت المضي قدماً في المشروع.

الصراع الأمريكي-الروسي في المنطقة

على غرار الحرب الباردة تلعب روسيا دوراً موازياً للتحالف الأمريكي الغربي في المنطقة، حيث التسابق على السيطرة على مناطق هامة في الإقليم. فبعد أن استطاعت روسيا بتدخلها المباشر في سوريا الحفاظ على نظام حليفها حافظ الأسد من السقوط، وتمركزها في ليبيا خلف الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، مما سيجعل من الصعب إيجاد تسوية سياسية في ليبيا تتجاوز النفوذ الروسي، تسعى روسيا لتعظيم فرص نفوذها في مناطق العالم وأقاليمه الحيوية بخاصة في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وتعتبر روسيا دولاً مثل إثيوبيا وإريتريا والصومال حلفاء قدماء للاتحاد السوفييتي السابق، إذ كانت تربطهم علاقات سياسية وعسكرية ونفوذ بلا منازع. كما أن هذه الدول تشهد توترات عميقة بينها وبين الولايات المتحدة والغرب عموماً، الأمر الذي يصبّ في مصلحة التقارب السياسي والتحالف العسكري بينها وبين موسكو.

ومن ناحية أخرى فإن التزاحم الروسي سيشعل المنطقة المزدحمة أصلاً بصراع القوى الدولية، إذ توجد بالمنطقة 19 قاعدة عسكرية، تديرها 16 دولة تتمركز 9 منها في جيبوتى وحدها، وتُعتبر جيبوتى الدولة الأكثر استضافة للقواعد العسكرية في العالم، وتتقاضى مقابل ذلك أكثر من 180 مليون دولار سنوياً لاستضافة هذه القواعد على أراضيها.

كما أن الوجود الصينى في المنطقة يُعَدّ الأقرب إلى موسكو منه إلى واشنطن، مما يشعل حدة التنافس ويعمّق حدة الخلاف والتوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، المتنافستين على موارد وثروات المنطقة، وتأمين مصالحهما وشركائهما.

ويظلّ التخوُّف الأكبر والهاجس الذي يقلق الولايات المتحدة والغرب هو حدوث تكتل روسي-صيني على حساب المصالح الأمريكية الغربية في المنطقة، بما يعقّد بيئة التفاعلات وسط صراع محتدم للمصالح. وسيظل ديدن التمركز والسيطرة على البحر الأحمر والقرن الإفريقي دائماً ما يكون مليئاً بالتحديات والتقاطعات.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي