سوق العمل العالمية.. إلى أين؟
شكّلَت نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة منعطفاً عالمياً مهمّاً، إذ استقبل العالَم جائحة كورونا التي كان لها أثر اقتصادي بالغ لم يستطع بعده كثير من الدول التعافي اقتصادياً حتى الآن.
عمال البريد الملكي ينظمون تظاهرة في ساحة البرلمان البريطاني احتجاجاً على الأجور والوظائف / صورة: AP (AP)

شكّلَت نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة منعطفاً عالمياً مهمّاً، إذ استقبل العالَم جائحة كورونا التي كان لها أثر اقتصادي بالغ لم يستطع بعده كثير من الدول التعافي اقتصادياً حتى الآن، تبعته الحرب الروسية على أوكرانيا فتسببت بأزمة غذاء عالمية وساهمت في انخفاض قيمة العملة الأوروبية اليورو، وصنعت أزمة وقود خطيرة، كما لوّحَت بشبح تضخُّم خيَّم على دول العالم كافة.

أزمة تلو أخرى جعلت من الصعب مواكبة التغيرات الاقتصادية المتلاحقة، وبات من الجليّ والواضح أن تلك التغيرات التي طالت السياسة والصحة لم تكتفِ بآثارها عليهما فحسب، بل طالت حياة الأفراد الخاصة بأنْ أنْهَت مدّخَراتهم.

فرضت قوانين الإغلاق وضعاً اقتصاديّاً مُقلقاً، ليس للأفراد الذين خسروا أعمالهم وأنفقوا مدخراتهم فحسب، بل لقد أثر ذلك في الناتج المحلي لكثير من الدول وأدّى إلى تدهوُر اقتصادات حكومية.

كشفت تقارير للبنك الدولي أرقاماً تُعَدّ تشاؤمية في ما يخصّ الأوضاع الاقتصادية، إذ أوضحت أنه من الممكن أن يعاني العالم من انكماش يبدو وشيكاً في عام 2023، وقد خفض التقرير توقعاته لنموّ الاقتصاد العالمي إلى 1.7% مقارنة بتوقعات سابقة تبلغ 3% بسبب الظروف الاقتصادية المتدهورة في العالم أجمع، أما في ما يخص تأثير ذلك الركود فقد أوضحت التقارير أن الدول الأكثر فقراً ستكون الأكثر تأثُّراً لأنها تضمّ 60% من فقراء العالم.

واقع سوق العمل اليوم

يُحِيلُنا ذلك إلى قراءة وجود أزمة أخرى لا تتعلق بالاقتصادات فحسب، بل ترتبط بشكل وثيق بالمهن وفرص العمل ومجالات التعليم على حدّ سواء، ساهم فيها أيضاً التحوُّل الرقمي والثورة التكنولوجية المتسارعة التي كان من شأنها تغيير في بنية الوظائف المجتمعية بظهور بعضها واختفاء البعض الآخر مع الوقت.

وحسب تقارير ودراسات فإن كثيراً من المهن مهدَّد بالانقراض بسبب التحول الرقمي وحلول الذكاء الصناعي محلّ اليد العاملة البشرية في إنجازها، تشمل وكلاء السفر إذ يمكن للعميل شراء تذكرة وحجز غرفة في فندق عبر الإنترنت والتطبيقات، وكذلك موظفو البنوك إذ يمكن إجراء المعاملات المصرفية عبر الإنترنت، وتسلُّم الأموال من أجهزة الصراف الآلي، ومن المهن المهدَّدة بالانقراض المحاسب، ومن المتوقع أن يُستبدَل بالمحاسبين العاديين برامج الكمبيوتر للمحاسبة والمراجعة، ليبقى أصحاب التأهيل العالي فقط.

كما أن وظائف الأطباء والصيادلة قد يشملها التحول الرقمي، بسبب اكتساب الروبوتات أهمية في مجال الطب، إذ أجرت الروبوتات في السنوات الماضية آلاف العمليات المعقدة لا سيما أن الآلات أدقّ وأسرع من البشر، ما يجعل العالم في مواجهة تحدٍّ حقيقي بحلول عام 2030 بسبب توقعات سيطرة الذكاء الصناعي على مجالات قد تشمل الأعمال الفكرية والعلمية والبدنية على حد سواء.

التحدي الذي يواجهه العالم اليوم ينعكس على الأفراد لأن الغالبية العظمى بدأت تفقد فرص العمل التي كانت تشغلها مع احتمال عدم وجود بدائل، ما يعني زيادة حدّة الأزمة مع الوقت بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة من جهة وسيطرة الذكاء الصناعي على الخدمات من جهة أخرى.

أوضحت منظمة العمل الدولية في تقرير صدر عنها في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022، أن الوظائف الشاغرة ستزداد ندرة فيما سيتدهور نموّ الوظائف على مستوى العالم بشكل كبير خلال الفترة المتبقية من العام. لقد كان للحرب في أوكرانيا -إذا ما تجاوزنا التكلفة الإنسانية- تأثير سلبي كبير في اقتصاد البلد وسوق العمل فيه.

ومن المتوقع أن تبقى البطالة العالمية أعلى من مستويات ما قبل كوفيد-19 حتى عام 2023 على الأقل، ويقدر مستوى 2022 بـ207 ملايين، مقارنة بـ186 مليوناً عام 2019. ويحذر تقرير منظمة العمل الدولية أيضاً من أن التأثير الإجمالي أكبر بكثير مما هو وارد بهذه الأرقام لأن كثيرين تركوا القوى العاملة. وقد كان معدل المشاركة في القوى العاملة العالمية عام 2022 أقل بمقدار 1.2 نقطة مئوية عن عام 2019 وفقاً للتقرير.

كذلك تشير تقديرات منظمة العمل الدولية للربع الثالث من عام 2022 إلى أن مستوى ساعات العمل كان أقل بنسبة 1.5% من مستويات ما قبل الجائحة، الأمر الذي يمثّل عجزاً قدره 40 مليون وظيفة بدوام كامل، وبذلك يشكّل فرقاً واضحاً مع مؤشرات بداية العام 2022 إذ كانت الأرقام تشير إلى بداية تعافٍ في ما يخصّ ساعات العمل.

أما فيما يتعلق بتقديرات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2022، فكان في ساعات العمل بالمنطقة عجز بنسبة 2.7% مقارنة بالربع الرابع من عام 2019، ما يعادل 3.7 مليون وظيفة بدوام كامل، وفقاً لمنظمة العمل الدولية.

نظم اقتصادية هشة وأخرى متينة

وأوضح مرصد منظمة العمل الدولية أن ارتفاع التضخم يؤدي إلى تدنٍّ في مستوى الأجور وعدم كفاية في قيمتها الحقيقية، وهو الأمر الذي بلغ ذروته في عام 2022 بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، بعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية، بما يؤدي إلى مزيد من التدهور في سوق العمل العالمية، وسترتفع معدلات البطالة وسيعاني عدم المساواة في العمل بالمقارنة بين الاقتصادات النامية والمتقدمة.

لكن من ناحية أخرى نلاحظ العكس في بيانات سوق العمل الأمريكية التي جاءت إيجابية خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ أضاف الاقتصاد نحو 263 ألف وظيفة، فيما كان من المتوقع إضافة نحو 200 ألف وظيفة فقط، بعدما كان قد أضاف نحو 284 ألف وظيفة خلال أكتوبر الماضي.

وفي الوقت ذاته استقرت البطالة قرب 3.7% في نفس الفترة، بما توافق مع توقعات الأسواق والقراءة السابقة، كما سجلت الأجور نموّاً بنسبة 0.6% خلال الفترة ذاتها، بأعلى من توقعات الأسواق حينذاك بأن تنمو الأجور بنسبة 0.3% فقط، وقد كان لهذه البيانات تأثير قوي وواضح للدولار أمام العملات الأخرى.

لقد أثّرَت الأزمات في الفئات ذات الدخل المنخفض بشكل أكبر، أولئك الذين يتقاضون أجورهم بالعملات المحلية أو الذين اضطُرّوا إلى إنفاق مدخراتهم في السنوات الأخيرة، لكن الأمر الأكثر صعوبة الذي تواجهه تلك الفئة اليوم أن المناخ الاقتصادي لم يعد آمناً لترميم الخلل المادي الذي ألمّ بهم، وأن فرص العمل الشاغرة تستمر بالتلاشي، وسيتدهور نمو التوظيف العالمي وفقاً لتقارير منظمة العمل.

لا تؤثر الظروف الحالية في إمكانية خلق فرص العمل فحسب، بل إنها قد تؤثر على نوعيتها، وقد تُضطرّ فئات من المتعلمين إلى العمل في وظائف غير مسجَّلة أو مؤمَّن عليها وفي مجالات لا يمتلكون فيها الخبرة ولا الأهلية، وقد تكون أقلّ من كفاءاتهم، وبالتالي تكون ذات أجر زهيد لتأمين ما يسد الحاجات الأساسية ولسد الرمق فقط في الدول الفقيرة.

تُعَدّ الأزمة العالمية الحالية من أشد الأزمات التي مرت على الشعوب والحكومات خطورة، لكنها تؤثر بشكل أعمق في الدول النامية، لأن اقتصادات الغرب القوية تنتهج نظاماً ليبراليّاً حرّاً مسبقاً يكون فيه سعر الصرف حرّاً مع وجود مؤسسات ضمان اجتماعي تتولى مسؤولية سد الحد الأدنى من الاحتياجات اللازمة للحياة، وهو الأمر الذي تفتقر إليه الدول الأشد فقراً لأن الحكومات تضيّق فيها الخناق على نشاطات الأفراد ولا تطبّق سياسات ضمان اجتماعي وتتحكم بالاقتصاد وسعر الصرف، غير أن الأزمات المتلاحقة التي عجزت عن التعامل معها جعلتها تثقل كاهل الدولة بالديون، ما انعكس بشكل مباشر على الفرد لأن تباطؤ النمو الاقتصادي سيؤدِّي إلى قلّة الطلب على العمالة وسيترك فئة كبيرة عاطلة عن العمل، وينخفض بالتالي الطلب على سلع استهلاكية معينة.

تحديات وفرص الإصلاح

تسعى توصيات منظمة العمل إلى عدم الاستكانة والسماح بضياع الجهد المبذول سابقاً لتنظيم الوظائف في ظلّ أزمة اقتصادية عالمية قد تضطرّ العاملين إلى العمل غير المنظَّم وغير المسجَّل، وإلى التزام مبادرات مثل "المسرع العالمي للأمم المتحدة بشأن الوظائف والحماية الاجتماعية" بقوة، وذلك من شأنه أن يساعد البلدان على خلق 400 مليون وظيفة وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية لأربعة مليارات شخص غير محميين حالياً، كما تثمّن محاولات إنهاء الصراع في أوكرانيا على النحو المطلوب في قرارات مجلس إدارة منظمة العمل الدولية، لأن من شأنه أن يسهم في تحسين حالة العمالة العالمية".

لقد كانت كلفة الحروب باهظة للدول الأطراف والدول المجاورة على حد سواء، فدمرت اقتصاد دول وأنهكت اقتصادات أخرى بزيادة الطلب على الوظائف في دول اللجوء، وكان لها أثر في العمل في وظائف لا تتمتع بمواصفات جيدة شكّلَت عاملاً مؤثّراً في هبوط الأجور، علاوة على أن بعض الدول النامية التي تستقبل لاجئين يعاني من مناخ اقتصادي هشّ غير قادر على خلق حالة اكتفاء ذاتي، ومعتمد على الاستيراد مع صناعات محلية خفيفة تجعله عرضة لتقلبات الأسعار وانعدام الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي وازدياد نسبة الفقر.

لقد فرضت متطلبات سوق العمل الجديدة اختصاصات جديدة حاولت الجامعات مواكبتها لتأمين حصول طالب العمل على الكفاءة، لكن ذلك لم يُتَح بشكل عامّ إلا في الجامعات الخاصة، فيما لم تواكب الجامعات الحكومية ذلك التحول، بما يعني عدم حصول الفقراء الذين يجتهدون للحصول على مقاعد في الجامعات الرسمية، على التدريب والأهلية المناسبة لمتطلبات سوق العمل الجديدة.

تختلف بالطبع متطلبات سوق العمل بين بنية اقتصادية وأخرى، أو حسب الخطة التنموية الاقتصادية في الدول، لكن ما يبدو أن الاختصاصات الجديدة تركز بشكل كبير على الذكاء الصناعي والتحول الرقمي ويبدو أنه يمهد لمناخ عمل افتراضي لا علاقة له بالوجود الواقعي للعاملين، لكنه يضعهم أمام تَحدٍّ جديد هو الحصول على مؤهلات وكفاءات عالية تضمن بقاءهم في السوق الجديدة في ظلّ منافسة قوية للحصول على فرص العمل القليلة المعروضة.

لا شك في أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة تؤثّر في تَغيُّر التخصصات بين عام وآخر أو منطقة وأخرى، لكن المؤكد اليوم أن سوق العمل أصبحت في أزمة حقيقية قد تتحكّم بمصاير شريحة كبيرة من الأفراد المؤهلين والقادرين على العمل، لكنهم لا يجدون الفرصة ولا تتاح لهم سياسات حكومية داعمة، الأمر الذي سيؤثّر في النهاية على اقتصادات الدول وقد يجعلنا نشهد نشوء وتطور اقتصادات وتدهور أخرى بحسب ديناميكية ومرونة الخطط التنموية في الدول، وحسب سياسات الدعم التي تتلقاها الاقتصادات النامية بدعم أسعار السلع اللازمة وإعادة توجيه الأرباح ومساعدة المؤسسات والأفراد الأضعف.


جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي