عواصف سياسية في المعسكر الغربي .. إيطاليا مثالاً
تستبدّ أزمة قيادة ببعض الدول الغربية التي تصطفّ في مواجهة روسيا، وقد لا تجد تعهُّدات بعض القادة الغربيين من يوفي بها إن انزلقوا عن كراسي الحكم، كما جرى مع رئيس الوزراء الإيطالي الذي استقال فجأة بسبب تنافر ائتلافه الحكومي رغم مكانته البارزة في أوروبا.
المستشار الألماني أولاف شولتز (يمين) والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (وسط) ورئيس الوزراء الإيطالي المستقيل ماريو دراغي (يسار)   (Reuters)

رغم تأثير ماريو دراغي في المشهد الأوروبي فإنه أخفق في إقناع قادة القارّة بعقد قمّة خاصة لبحث أزمة الغاز والطاقة الخانقة. حدث ذلك في 24 يونيو/حزيران، عندما كان رئيس الوزراء الإيطالي ضمن صدارة المشهد الأوروبي المتحرِّك سريعاً للتعامل مع تطوّرات الحرب الأوكرانية والتعامل مع التهديدات المنسوبة إلى روسيا.

ظهر دراغي قُبيل ذلك ضمن وفد قيادي أوروبي زار كييف والتقى الرئيس فولوديمير زيلينسكي، شمل زعماء ألمانيا وفرنسا ورومانيا أيضاً. منحت الزيارة انطباعاً بتماسُك قيادة أوروبا خلف أوكرانيا الموعودة بالانضمام إلى الاتحاد، وبأنّ صانعي القرار الأوروبي مصمِّمون على احتمال مزيد من الأعباء الاقتصادية والسياسية والعسكرية في مواجهة مفتوحة بين المعسكر الغربي وروسيا.

قد تكون الانطباعات مضلِّلة أحياناً، وقد لا تجد التعهّدات والمواقف التي تصدر عن بعض القادة من يحتملها إن انزلقوا عن كراسي الحكم فجأة، كما جرى في الأسابيع اللاحقة مع دراغي تحديداً الذي اضطُرّ إلى الاستقالة بسبب تنافر شركاء ائتلافه الحكومي.

لا تتماسك الحكومات الإيطالية أكثر من سنة أو سنتين، فتشكيلاتها الائتلافية الهشّة تنهار سريعاً كما يفعل الموج بقصر رملي على الشاطئ، وتتأرجح سياستها الخارجية كما لا يحدث في دولة أوروبية أخرى. لكنّ الأزمة الحكومية الجديدة تخيِّم بظلال كئيبة على إيطاليا المأزومة في الداخل وعلى أوروبا التي تحاول إدارة مرحلة محفوفة بالتحديات الجسيمة من حولها.

لم تُعَمَّر حكومة ماريو دراغي سوى سنة واحدة، ثم اضطرّه خذلان شركاء ائتلافه الحكومي إلى تقديم استقالته لدى الرئيس سيرجيو ماتاريلا يوم 21 يوليو/تموز ليدرأ سحب الثقة البرلمانية عنه. إنها استقالة مزعجة لأوروبا أيضاً، لأنّ دراغي كان ملاذها في بلد مُستعصٍ على الحكم، ولن تكون أي تشكيلة قادمة بمنأى عن التفكُّك بمقتضى توازنات ظرفية تنشأ فوق رمال انتخابية تتحرّك بين شركاء متنافسين يفتقرون إلى الرُّشد.

يخرج ماريو دراغي من مشهد حكومي تاركاً ثلّة من السياسيين المتطرِّفين والشعبويين. يتأهّب حزب "أخوة إيطاليا" اليميني المتطرِّف للاستثمار السريع في لحظة الحيرة والتردُّد ليحصد مكاسب من الانتخابات المبكرة في سبتمبر/أيلول، فيعيد تجريب أساليب سابقيه. ففي شبه الجزيرة المتقلِّبة سياسياً صارت المنافسات الانتخابية حكراً على الشعبوية التي تُخرِج وجوهاً متطرِّفة وخطابات متشنِّجة ومواقف متضاربة تعجز عن الانسجام في إدارة البلاد أو تمثيلها خارجياً.

وجدت السياسة الإيطالية في دراغي ضالّتها بعد انهيار ائتلاف حكومي لم ينجح في التوافق على التعامل مع جائحة كورونا وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية. فالمصرفي البارز أوروبياً وعالمياً بدا خيارها للإمساك بزمام ائتلاف جديد، متناقض بالطبع، كي يدير البلاد ويمثِّلها في أوروبا.

تَقلَّد دراغي رئاسة الوزراء في فبراير/شباط 2021، بعد سنة شديدة الوطأة على إيطاليا. فعندما تسلّلت جائحة كورونا إلى أوروبا عبر البوابة الإيطالية سادت توقّعات متشائمة بشأن فرص النجاة من العواقب الاقتصادية والاجتماعية الجسيمة للجائحة، إذ كان البلد مُنهَكاً ومُثقَلاً بديون متراكمة تفرض عليه التوافق مع أوروبا لضمان المساندة الاقتصادية.

رأى القوم في دراغي المولود سنة 1947 رجل المرحلة الحرجة، لأنّ تناقضات الأحزاب فرضت البحث عن شخصية مستقلّة تتصدّر المشهد وتأتي بخبراء مستقلِّين إلى الحكومة، ولأنّ أوروبا تنتظر شريكاً تثق به.

عُدّ دراغي الوجه الأمثل بعد سيرة مديدة في العمل المالي، فقد كان مديراً عامّاً للخزانة الإيطالية، وعمل مع البنك الدولي ومؤسسات مصرفية خاصة، ووقف على رأس بنك إيطاليا ومجلس الاستقرار المالي حتى سنة 2011. ثمّ رأس البنك المركزي الأوروبي ثماني سنوات حتى سنة 2019 أخرجت منطقة اليورو من أزمة خانقة، حتى نودي بـ"سوبر ماريو".

فاقمت هذه الخلفية وطأة استقالة ماريو دراغي، فمكانته تجعل تخلِّي شركاء السياسة الإيطالية المتخاصمين عنه نذير شؤم على وجهة بلد ظلّ من ركائز أوروبا الموحدة واقتصاد اليورو وحلف الأطلسي أيضاً، فيما لا يكفّ سياسيّوه المتصارعون عن إسقاط أي ائتلاف حكومي يتشكّل، ولو وقف على رأسه دراغي الذي يضعه بعض تصنيفات مجلة "تايم" وصحيفة "بوليتيكو يوروب" وغيرهما، ضمن أكثر الشخصيات الأوروبية نفوذاً وتأثيراً.

لكنّ المناخ السياسي الموبوء لا يمنح فرصاً لإدارة رشيدة، وإن لم ينجُ حتى هذا الخبير المخضرم المستقلّ من عواقب التنازع الحزبي في بلاده، فمن بوسعه أن ينجح في قيادة أي ائتلاف حكومي قادم فيها؟!

تخشى أوروبا عواقب التطوّرات الإيطالية، فشريكها في هذا البلد كان حاضراً بصفة فاعلة على المسرح الأوروبي، ومع تنحِّيه قسراً تطلّ الشعبوية المتأجّجة برأسها بعد أن توارت في ظلاله، طمعاً في حصص انتخابية مجزية، عبر تشنّج الخطابات وغلوّ المواقف المناهضة لأوروبا والاصطفافات الغربية.

تتنازع المشهد الانتخابي الإيطالي "حركة خمس نجوم" الشعبوية ذات الطابع الهلامي في تشكيلها، وحزب "الرابطة" ذو النزعة الانفصالية سابقاً بزعامة اليميني المتطرف ماتيو سالفيني، والحزب اليميني "فورتسا إيطاليا" (إيطاليا قُدُماً) بزعامة سيلفيو برلسكوني، وحزب "فراتيلي ديطاليا" (أخوة إيطاليا) ذو الجذور الفاشية بقيادة جورجيا ميلوني.

تغلب المواقف الناقدة للاتحاد الأوروبي على هذه الأحزاب، بما يزيد انزعاج بروكسل من خروج ماريو دراغي المعروف بولائه للوحدة الأوروبية من المشهد ونشاطه في السياسة الخارجية رغم افتعاله أزمة سياسية مفاجئة مع تركيا بعد أسابيع من رئاسته الحكومة.

بوسع فلاديمير بوتين أن يحتفي بما يجري، فهو ينعم باستقرار سياسي داخلي رغم العقوبات الغربية المشدَّدة، فيما تستبدّ أزمة قيادة ببعض الديمقراطيات الغربية حتى في ذروة المواجهة مع التحدي الروسي وهواجس الأزمة الاقتصادية.

فرئيس الوزراء الإيطالي يستقيل بسبب شركاء ائتلاف حكومي لم يعبؤوا بأولوية الظرف الاقتصادي الضاغط وبأزمة إمدادات الطاقة وبدعوات النفير الأطلسي في ظلال الحرب في أوكرانيا.

تزامن ذلك مع استقالة بوريس جونسون الذي هوت به الفضائح فيما تصطفّ بلاده مع الولايات المتحدة في مواجهة روسيا. أمّا ألمانيا، قاطرة الاقتصاد والسياسة في أوروبا، فإنّ ائتلافها الثلاثي بين الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر والليبراليين يقوم على توازنات لا تمنح المستشار شولتز امتيازات قيادية حظيت بها ميركل من قبل.

حتى واشنطن التي استعادت تبعية أوروبا لها على منوال تقاليد الحرب الباردة، فإنّ رياحاً متعارضة عصفت بها منذ عهد ترمب إلى عهد بايدن الذي يهدِّد التضخّم القياسي مستقبله ويحفِّز سلفه الأرعن للعودة إلى البيت الأبيض.

ثمّ إنّ استقالة دراغي، الذي وجّه انتقادات عدّة إلى روسيا في الشهور الأخيرة، أعادت إلى الأذهان نفوذ موسكو في الفناء الإيطالي الداخلي، فبوتين يحظى بإعجاب سياسيين منهم المتطرف سالفيني الذي كان وزيراً للداخلية. يُؤتى بإيطاليا الأطلسية، على هذا الأساس، شاهداً على محاولة روسيا اختراق الحياة السياسية الأوروبية عبر بوابة الشعبوية العريضة. وبعد أن فرض غزو أوكرانيا على بعض "أصدقاء بوتين" الأوروبيين تورية مواقفهم الصريحة، يستأنف بعضهم الاستثمار السياسي والانتخابي في مؤشِّرات التضخّم وأزمة الطاقة عبر توجيه اللوم إلى حُزَم العقوبات الغربية على موسكو التي تجرّ أعباء عكسية على القارّة، فأوروبا تدفع -حسب رأيهم- ثمناً باهظاً لسياسات تختطّها واشنطن وتفرضها على الأوروبيين. وإذ تُعَدّ إيطاليا ضمن أكثر الدول الأوروبية تأثراً بالأزمة الروسية-الغربية في مجالات الطاقة والاستثمارات والتبادلات، فإنّ لذلك تأثيراته على تجاذبات إيطاليا الداخلية وسياستها الخارجية أيضاً في ظرف دولي ضاغط على الأطراف جميعاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي