في إدلب عندما تتحول القلاع التاريخية إلى مراكز للتعليم
لم تعُد بقايا قلعة أثرية بموقعها الذي يتوسط مخيمات منطقة دير حسان شمالي إدلب، وجهةً سياحية كما يُفترض أن تكون.
جانب من القلعة الأثرية في إدلب والتي  تحولت إلى مركز للتعليم (TRT Arabi)

فقد أضحت اليوم مكاناً يقصده الأطفال حاملين بين أيديهم ما توفّر من كتب دراسيّة وقرطاسية، برفقة سيدات وجدنَ في النزوح دافعاً نحو التعلُّم واكتساب مهارات جديدة بعد انقطاع طويل.

بجهدٍ تطوعي تمكنت نجلاء معمار، المهجَّرة منذ نحو عامين تقريباً من معرة النعمان جنوبي إدلب، من تحويل موقع أثري روماني يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر الميلادي في منطقة دير حسن شمال إدلب، بعد إجراء عدة ترميمات، إلى مركز تعليمي للأطفال يحمل اسم "شام"، وتشير في حديثها لموقع TRT عربي إلى أنها تحاول من خلال المركز أن تخلق من واقع النزوح والبؤس أملاً جديداً لدى الأطفال والسيدات المهجَّرات اللواتي يقدمن دروساً لأطفال ونساء المخيمات الذين يرغبون في تعلم مهارات جديدة والاستفادة من التدريب المهني.

لماذا الموقع الأثري؟

استفادت معمار من طبيعة الموقع الجغرافي الذي نزحت إليه في منطقة دير حسان الذي يحتوي على ما يقرب من 600 مخيم للاجئين، يقطن فيها حسب "منسقو استجابة سوريا"، مئات الآلاف من النازحين السوريين. وعمِلت على ترميم أرض الموقع الأثري وتغطية جدرانه بالستائر مستعينة بأصدقائها حتى تخلق جواً مناسباً للتعليم، إلى جانب سقف المكان بالأغطية (الشادر والعوازل)، مشيرةً إلى أنّ اختيار القلعة لمشروعها التعليمي، كان سببه "الهرب من ارتفاع أجور المنازل ومراكز التدريب التي لا تناسب حال المشروع التطوعي الذي يكاد ينعدم عنه الدعم المالي تماماً هذه الأيام.

محاولة لإيجاد فرص عمل

وقالت معمار لموقع TRT عربي، إن هدفها هو "مساعدة الأطفال والنساء النازحين الذين يطمحون إلى العثور على فرص عمل"، وقالت إن المركز يقدّم تدريباً في "عدة مهن مثل الخياطة والإسعافات الأولية وتصفيف الشعر والماكياج والنسيج"، وقد أكمل نحو 20 بالغاً الدورات حتى الآن.

لا تحتوي المخيمات على مدارس، وفي فصل الشتاء إذ يصعب التحرك اكتفت المدرسة "التاريخية" بتعليم 30 طفلاً فقط بسبب الطقس البارد وغياب التدفئة. في الصيف يصل العدد إلى 70. تشتكي معمار نقص بعض الاحتياجات الأساسية لاستمرار عملية التعلم، إذ يُضطرّ بعض الأطفال إلى حضور الدروس جالسين على الأرض بسبب عدم توفر مقاعد للعدد الموجود أو حتى ألواح للكتابة ووسائل للإنارة.

خلق جو أكثر ملاءمة للتعلم

"لقد اخترنا القلعة لمشروعنا لعدم إمكانية دفع الإيجار في أي مكان آخر، ولا يمكننا تحمُّل ذلك لأن عملنا يعتمد على المتطوعين، إذ يتكاتف 15 شخصاً لجعل المشروع واقعاً والتعامل مع الإدارة والتعليم والتدريب".

مجموعة من الطلاب الذين يأخذون قسطاً من تعليمهم في القلعة الأثرية بعد أن استطلحت. (TRT Arabi)

وأضافت: "غطينا الجدران والسقف بالستائر لخلق جو أكثر ملاءمة للتعلم، ونسعى أيضاً لتضمين مزيد من التدريب في اللغة ولغة البرمجة، لكن هذا سيتطلب تمويلاً وأجهزة كمبيوتر ومعدات أخرى".

غياب الدعم

تضيف معمار أنّ "غياب الدعم المادي واللوجستي عن المركز وافتقاره إلى كثير من التجهيزات، سوف يعرقل إنجاز كثير من الأفكار التي يمكن أن نبدأ بها لتحقق نفعاً كبيراً لفئتي الأطفال والسيدات على حدّ سواء"، كما أنّها تطمح إلى "توسيع حزمة التدريبات لتشمل اللغات ومهارات الـ(أوفيس)، إلا أنّ الأخيرة تحتاج إلى دعم وتغطية مالية وكذلك لوجستية من أجهزة ومعدّات".

علا الحلاق، نازحة من قرية كفر سجنة في ريف إدلب الجنوبي، مدرّسة في روضة أطفال تابعة للمركز، وفي الفترة المسائية مشرفة على الدورات التدريبية التي تتضمن الخياطة والكوافير والتمريض التي يقدمها المركز، لا سيما الأرامل اللاتي أصبحت نسبتهن كبيرة. علا نازحة من ريف إدلب الجنوبي، تعيش حالياً في أحد مخيمات دير حسن، تحاول عبر دورات الخياطة أن تجد فرصة لها تمكّنها عول أسرتها وأن تكون عنصراً فعالاً في المجتمع.

المركز الوحيد للنساء في دير حسن

علا متطوعة أخرى في المركز، اشترت ماكينة خياطة قديمة لتبدأ صنع وإصلاح الملابس لسكان المخيم، تقول مضيفةً: "كنت أتمنى لو تمكنت من مواصلة دراستي والحصول على دبلوم في الأدب العربي في الجامعة، لكنني اضطُررت إلى ترك المدرسة والبحث عن عمل في ظل الظروف الصعبة التي نمرّ بها منتظرين أن نحصل على دعم ولو قليل لنتمكن من متابعة مشروعنا التعليمي والتدريبي".

مجموعة من الطلاب الذين يأخذون قسطاً من تعليمهم في القلعة الأثرية بعد أن استطلحت. (TRT Arabi)

وتعتبر محافظة إدلب من أغنى المناطق الأثرية في سوريا، فهي موطن عديد من المعالم والآثار القديمة بما في ذلك أكثر من 1000 موقع أثري و40 قرية تاريخية، سُجّل عديد منها في قائمة التراث العالمي، ويعود تاريخها إلى الحقبة الآرامية واليونانية والرومانية، والعصور الآشورية والبيزنطية والإسلامية.

بدوره يعتبر باحث الآثار السوري لدى مؤسسة "جيردا هنكل" الألمانية حسن علي، لـTRT عربي أن عملية تحويل مبنى أثري ما من وظيفته التي كان عليها إلى وظيفة أخرى، لا تضر بالعناصر الإنشائية والزخرفية بالمبنى، وأن الأمر وارد كثيراً حتى إن حكومات لا تزال توظف المباني الأثرية والتاريخية بوظائف لا تضر بعناصر المبنى. على سبيل المثال لا يزال كثير من الكنائس الأثرية في أوروبا يُستخدم دور عبادة حتى اليوم مثل كاتدرائية نوتردام في باريس التي تقوم مكان بناء أول كنيسة مسيحية في باريس، وهي «بازيليك القديس استيفان» والتي كانت بدورها مبنية على أنقاض معبد جوبيتير الروماني، ولا تزال المساجد العثمانية تمارس دورها لإقامة الصلوات الإسلامية فيها وحلقات العلم الديني منذ قرون إلى الوقت الحاضر".

إن أيّاً من هذه المباني لم يفقد الملامح والخصائص الجوهرية التي تجعل منه مبنى يحمل الصفة الأثرية. وفقد هذا المبنى ملامحه وخصائصه الأثرية يعرّضه لفقد الصفة الأثرية والتراثية عنه، بالتالي سيكون فاقد الهوية ومقطوعاً من جذوره التاريخية، وفق تعبيره.

هل تختفي المواقع الأثرية من سوريا

يوضح علي أن سلامة أرواح المدنيين تطغى على أهمية المواقع الأثرية في حال استمرت ظاهرة التهجير والنزوح، فالإنسان يشكّل عنصراً رئيسياً من عناصر التراث الثلاث مع الموقع الأثري والمحيط الطبيعي. والإنسان قد يكون سبباً في بناء حضارة ما أو هدمها، بالتالي هؤلاء النازحون يكونون إما سبباً في استمرار وبقاء هذه المواقع الأثرية التي يلجؤون إليها من خلال الوعي وإدراك مدى أهمية الحفاظ على هذا المكان وعدم إلحاق الضرر بمكوناته ولو اضطُرُّوا إلى المكوث فيه لفترة مؤقتة، وإما سبباً في سحق هذه المواقع وتدميرها من خلال التدخل العشوائي بمكونات هذا الموقع وإزالتها والعبث بها، مؤكداً أن "هذا الوعي لا ينبثق فقط من الذات والفطرة لدى الأشخاص، لا بل يجب على الجهات المتنفذة في ذلك المكان أن يكون لها دور في نشر هذا الوعي بشتى الوسائل والإمكانيات المتاحة"، مدللاً بأن "مركز شام يعمل فيه باحثون آثاريون متطوعون للمساهمة بنشر الوعي بين النازحين بحفظ الآثار والتراث وعدم العبث، بها كما أن اليونسكو ومنظمات حماية التراث تتحمل جانباً من مسؤولية نشر الوعي بين هؤلاء النازحين للحفاظ على تراثهم وآثار بلادهم".



TRT عربي