لعبة الحبّار Squid Game.. في نقد الرأسمالية المتأخرة
يأتي مسلسل لعبة الحبّار Squid Game ذائع الصّيت، الذي أنتجته منصة Netflix في ذيل قائمة غير قصيرة من الأفلام السينمائية والمسلسلات التي يشترك محتواها في بعض العوامل والأفكار.
لعبة الحبار (Others)

ليس أول أعمال هذه القائمة الفيلم الياباني قتال حتى الموت Battle Royale الذي أُنتج عام 2000، ولن تنتهي القائمة بمسلسل لعبة الحبّار بكل تأكيد.

تضمّ القائمة أفلاماً مثل الفيلم الياباني وفقاً لرغبة الآلهة As the Gods Will الذي أُنتج عام 2014، وسلسلة الأفلام الأمريكية ألعاب الجوع The Hunger Games التي تشتمل على أربعة أفلام بدأت عام 2012 وأخرجها جاري روس Gary Ross، وتقدّم دور البطولة فيها الممثلة الشهيرة جينيفر لورانس Jennifer Lawrence.

تشترك جميع هذه الأعمال في عرضها لحبكة بسيطة ومتشابهة، وهي وجود مجموعتين من الأشخاص، تملك واحدة كماً هائلاً من عوامل القوة والثراء، بينما لا تملك الأخرى أيّ شيء. تنظّم المجموعة الأولى مجموعة من الألعاب الدموية التي يخاطر اللاعب فيها بحياته في مقابل خروجه من المجموعة الأولى.

لكنْ على الرغم من التشابه الكبير في هيكل الحبكة بين هذه الأفلام كلّها وحضورها الكثيف في مناقشة مسلسل لعبة الحبّار، إلا أنّ الفيلم الأكثر حضوراً عند مناقشة أفكار مسلسل لعبة الحبّار هو الفيلم الكوري الجنوبي طفيلي Parasite لأسباب مباشرة تتعلق بوحدة بلد الإنتاج ولكونهما من الأعمال القليلة غير الناطقة بالإنجليزية التي تربّعت على عرش المشاهدات في العالم كله.

لكنّ السبب الأكثر عمقاً هو أنه على الرغم من اختلاف الحبكة وهيكل القصة إلا أنّ المفاهيم التي يطرحها كلاهما متشابهة، وهي مفاهيم تناقش الطبقية، والمجتمع الرأسمالي المتأخر، والتركز غير العادل للثروة.. إلخ.

عن اللعبة

يعرض المسلسل قصة جي-هون Seong Gi-hun المواطن الكوري الجنوبي الذي يمرّ بصعوبات مالية في حياته ناتجة عن تسريحه من العمل، ما أدى إلى انفصاله عن زوجته وابنته وغرقه في بحر من الديون.

يحاول جي-هون الحصول على الأموال باستخدام أية وسيلة سهلة كالمراهنات في سباقات الخيل أو غيرها من الحيل التي من شأنها أن توفّر قدراً كبيراً من المال دون مجهود كبير. يلتقي جي-هون بشخص مجهول يعرض عليه أن يلعبا لعبة أطفال في مقابل الحصول على قدر كبير من الأموال، وعندما استطاع جي-هون الفوز باللعبة، عرض عليه هذا الشخص المشاركة في ألعاب أخرى تقدّم مقابلاً مادياً أكبر.

يشارك جي-هون بالفعل في هذه الألعاب، ويلاحظ أنها على درجة عالية من التنظيم والإدارة، بل والأهم من هذا السريّة. يجد جي-هون نفسه وسط مجموعة يبلغ عددها 465 لاعباً يجمع بينهم ضيق الحال والهرب من الديون والبحث عن فرصة أخرى لبداية جديدة، وهو ما يحاول جميعهم الوصول إليه من خلال الفوز في هذه الألعاب التي تقدّم جائزة مالية تقدر بـ45 مليار ون كوري وهو ما يعادل 38 مليون دولار تقريباً.

عندما تبدأ أول لعبة في السلسلة المكونة من ستّ لعب متتالية، يُفاجأ الجميع بأنّ اللعبة لعبة أطفال تقليدية يألفها الجميع أو على الأقل البالغين الذين لم تغزُ الألعاب الإلكترونية طفولتهم، لكن سرعان ما نكتشف الجانب المظلم لهذه اللعبة وهو أنّ الخاسر يُقتل.

في هذه اللحظة نفهم الهيكل الكامل لهذه اللعبة، فهي لعبة يتنافس فيها الفقراء واليائسون في ألعاب طفولية للحصول على المال كي يستطيعوا استكمال حياتهم مخاطرين بحياتهم في سبيل ذلك، والهدف الوحيد لهذه المخاطرة الكبيرة هو التسلية التي تحصل عليها مجموعة من شديدي الثراء الممولين.

الرأسمالية المتأخرة

يمكننا أنْ نلاحظ أنّ عقدة المسلسل تعتمد بشكل رئيسي على ما نسميه التناقض الرئيسي للرأسمالية، ويمكن أن نلاحظ صورتين مختلفتين لهذا التناقض في المسلسل، الصورة الأولى نشاهدها في قاعدة هرم المجتمعات الرأسمالية، وهي أنّ الفقراء يضحّون بحياتهم من أجل الحصول على المال الذي ليست له أية فائدة إنْ لم تكن حياً، ما يعني بالضرورة أنّ الحياة أسمى من المال، إلا أنّ الرأسمالية تضحّي بها في مقابل الحصول عليه.

الصورة الثانية هي التي نشاهدها في قمّة الهرم، وهو شديد الثراء الذي لا يواجه أية مشكلات إلا أنّ ثراءه الفاحش وامتلاكه للثروة، الجائزة المركزية التي تعِد بها الرأسمالية، يجعل الحياة مملة وغير ذات معنى إلى درجة مشاركة منظّم هذه الألعاب بنفسه في الألعاب مضحياً بحياته مقابل الشعور بالحياة.

وربما يكون واحداً من أهم أسباب نجاح المسلسل، وهو قدرته على رسم أنماط متماسكة لشخصيات واقعية، ثم الاعتماد على المنطق الداخلي لهذه الشخصيات في قيادة أحداث المسلسل، مما يمكّننا من تكوين تصوّر جيّد عن المؤهلين للفوز بهذه المسابقة منذ بداية الأحداث، فهناك الفتاة الكورية الشمالية ساي-بيوك Kang Sae-byeok التي تتميّز بالإرادة والحذر والسرعة، ولكن ينقصها القوة الجسدية، وهو ذاته ما ينقص أو-إلنام Oh Il-nam الذي يتميّز بالحكمة والخبرة الطويلة في لعب هذه الألعاب بحُكم كبر سنّه.

على الجانب الآخر نجد رجل العصابات دوك-سو Jang Deok-su الذي يمكننا منذ اللحظة الأولى معرفة أنه لن يكون سوى عقبة في طريق الفائز حيث لا يملك أيّ مقوّمات سوى القدرة على إرهاب المتسابقين الآخرين.

لذلك تنحصر الاختيارات في شخصين يمثّل كلٌّ منهما منظوراً مختلفاً للحياة، الخيار الأول هو بطل المسلسل جي-هون وهو من يملك قدراً متوازناً من المقوّمات التي تؤهّله للفوز، لكنّه ليس الأفضل في أيّ منها، في مقابل الخيار الثاني وهو الشخص الأكفأ والأنسب للفوز وهو صديق طفولته سانج-وو Cho Sang-woo.

يتميّز سانج-وو بالقوة البدنية والذكاء الشديد وسرعة البديهة والجدية والرغبة في الفوز بدرجة أعلى من نظيره جي-هون، لكننا مع مرور أحداث المسلسل نلاحظ الفارق الأهم بين الشخصيّتين وهو أنّ سانج-وو عقلاني، ابنٌ للنّظام، مؤمن به، وبمعنى آخر ينظر للحياة من داخلها، أي من خلال مجموعة العوامل التي تشكّل الحياة طالما كنت حياً مثل الكفاءة والثروة والجدية والعمل والانضباط.. إلخ.

بينما نجد جي-هون شخصاً عاطفياً، غير مهتم بالحصول على الجائزة لتحصيل الثروة، ولكن يسعى لذلك لعلاج والدته والإنفاق على ابنته، وخلال أحداث المسلسل نلاحظ ميله العاطفي الذي دفعه لاتخاذ عدد من القرارات التي لم تكن مناسبة من زاوية عملية على العكس تماماً من سانج-وو.

اختار المخرج دونج-هيوك Hwang Dong-hyuk خاتمة باعثة على التفاؤل، فعلى الرغم من أنّ سانج-وو هو الأكثر كفاءة، إلا أنّ انتصاره سيُنهي المسلسل بنظرة شديدة القتامة للحياة، حياة لا تتحقق إلى بقتلها في داخل الإنسان أولاً، حياة ليس فيها متّسع لغير الصراع على المادة.

لهذا اختار دونج-هيوك فوز جي-هون في النهاية. سيحصل جي-هون على هذه الثروة الطائلة لكنّه سيخرج غير راغب فيها بعد كل ما خبره في سبيل الحصول عليها، حتى يجد أن السبيل الوحيد كي يصبح لهذه الجائزة معنى هو أن يحقق رغبات المتسابقين في الاعتناء بذويهم.

لم يكن سانج-وو شريراً، بل كفئاً، وهو يمثّل الإنسان الذي تخلقه الرأسمالية، إنسان لا يرى ما هو خارج الحياة المادية، بينما يمثّل جي-هون النهاية المتفائلة، وهي انتصار ما يسمّيه المُخرج الشعور الإنساني، وبغضّ النظر عن ماهية "الإنسانية" إلا أنها بالتأكيد شعور خارج عن الحياة، ومتجاوز لها، وأسمى منها.

لقد قدّم مسلسل لعبة الحبّار تجربة دسمة متعددة الأبعاد، ولا يمثّل هذا المقال سوى واحد من عشرة أجزاء منها على الأقل. ونجح دونج-هيوك في تقديم هذه الأفكار العميقة والرؤية المركبة للحياة في قالب فنّي يحتوي على الكثير من التسلية ويمكنه أن يخاطب مختلف مستويات الفكر ويؤثر بعمق على المشاهد.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي