ما سر الحراك الأمريكي النشط تجاه ليبيا؟
شهدت الساحة الليبية حراكاً لافتاً في الأسبوع الماضي تَمثَّل في زيارة مفاجئة قام بها رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز لليبيا. زيارة بيرنز جاءت بعد تطورات لافتة  شهدتها الساحة الليبية من قبيل تسليم المواطن الليبي أبو عجيلة المريمي.
رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز أثناء زيارته للعاصمة الليبية طرابلس. (المصدر: Libya Review) (Others)

شهدت الساحة الليبية حراكاً لافتاً في الأسبوع الماضي تَمثَّل في زيارة مفاجئة قام بها رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز لليبيا. زيارة بيرنز جاءت بعد تطورات متتالية شهدتها الساحة الليبية من تسليم المواطن الليبي أبو عجيلة المريمي للولايات المتحدة، لكن السياق الأهمّ لهذه الزيارة يتمثّل في احتواء الوجود الروسي في ليبيا ومنع تحولها إلى ساحة عمل روسية تهدّد حلفاءها الأوروبيين.

ففي خطوة مفاجئة قام رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز بزيارة للعاصمة الليبية طرابلس ولقاء رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وكذلك زيارة للشرق الليبي حيث التقى خليفة حفتر. وقد جاءت الزيارة في اتساق مع زيادة انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في الملف الليبي في السنوات الثلاث الماضية.

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن بيرنز يتمتع بشخصية تتجاوز العمل الأمني لتلعب دوراً في رسم السياسة الخارجية الأمريكية. فبيرنز كان قد تقاعد من السلك الدبلوماسي الأمريكي بعد أن وصل إلى منصب نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية وعمل لسنوات طويلة في أماكن مختلفة من العالم أهمها عمله سفيراً في موسكو، التي يمثل وجودها في ليبيا تحدياً رئيسياً لأمريكا.

كما أن بيرنز في تجربته الطويلة قد عمل بشكل مباشر في عدة ملفات معنية بالشرق الأوسط كان منها ملف نزع الأسلحة الكيماوية وتفكيك البرنامج النووي الليبي في العقد الأخير من حكم العقيد القذافي. لاحقاً بُعيد تعاقده من الدبلوماسية الأمريكية شغل منصب إدارة وقف كارنيغي لأبحاث السلام قبل أن يتم تكليفه من الرئيس الأمريكي بايدن بإدارة وكالة المخابرات الأمريكية.

زيارة بيرنز جاءت بعد شهر من تسليم بو عجيلة المريمي، المواطن الليبي المتهم بتصنيع القنابل التي استُخدمت في تفجير لوكيربي في عام 1988 الذي راح ضحيته عشرات المواطنين البريطانيين إثر تفجير الطائرة التي كانت تقلّهم. تسليم بوعجيلة الذي تم بشكل سري أثار حنق الكثير من الليبيين، وتَخوُّف آخرين، بخاصة أتباع النظام الليبي السابق الذين يعبّرون عن قلقهم اليوم من تسليم ليبيا عبد الله السنوسي رئيس المخابرات الليبية في عهد القذافي والمطلوب من قبل السلطات الأمريكية.

اللافت في زيارة بيرنز أنها اقتصرت على لقاء كل من عبد الحميد دبيبة في طرابلس وحفتر في الشرق في استثناء لكل من خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب اللذين كانا قد فشلا في الأشهر الأخيرة في التوصل إلى توافق على الإطار القانوني للانتخابات الليبية، هذا على الرغم من عديد اللقاءات التي جمعت الطرفين في القاهرة وفي المغرب، وكذلك على الرغم من دعم البعثة الأممية المباشرة لتقاربهما.

اقتصار الزيارة على دبيبة وحفتر قرأه البعض تجاوزاً من الطرف الأمريكي لكل من المشري وصالح ومحاولة للعمل على تقارب حكومة التوافق الوطني وحفتر مباشرة. وقد سُجّل في هذا السياق لقاء جمع كلّاً من حفتر ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي في القاهرة مؤخراً.

أكّد بيرنز في لقائه مع حفتر ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية، في رسالة واضحة ضدّ محاولات تقسيم البلاد، كما أشار بعض المصادر إلى أنه طلب من حفتر السماح لحكومة دبيبة بالعمل في الشرق الليبي، الخطوة التي في حال تحقُّقها ولو جزئياً فإنها ستدعم وحدة الأراضي الليبية.

هذه التحذيرات الأمريكية تأتي ربما لفرملة أي تحركات من حفتر قد تؤثّر في وحدة الأراضي الليبية. فقد تداول بعض الأوساط أن حفتر كان ينوي الإعلان عن نيته دعم استقلال الشرق الليبي في الاحتفال الكبير الذي أقامه في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي في ذكرى استقلال ليبيا. وتتطابق هذه النيات في حال صحّت مع ما يتم تداوله في بعض الدوائر الدبلوماسية من أن روسيا قد تدعم هذا التوجه، الذي يضمن لها وجوداً ربما مريحاً في شرق ليبيا.

مواجهة الوجود الروسي المتزايد في ليبيا تحديداً وإفريقيا على وجه العموم يمثّل أحد محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه ليبيا، التي تميزت بزيادة النشاط في السنوات الثلاث الأخيرة، وتحديداً بعيد التدخل الروسي المباشر في منتصف عام 2019 من خلال إرسال طائرات حربية روسية إلى مطار الجفرة العسكري في وسط ليبيا، وما سبقه من تزايد لوجود قوات فاغنر التي تسجّل وجوداً عسكرياً متنامياً في دول إفريقية مثل تشاد ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينافاسو وجنوب السودان.

بالنسبة إلى أنقرة، التي أصبحت في السنوات الثلاث الماضية لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه في ليبيا، فإن زيادة الانخراط الأمريكي لا تمثل تهديداً ما دامت تسعى بشكل رئيسي لاحتواء الدور الروسي في ليبيا، إذ إن معسكر حفتر الذي تدعمه روسيا يقف ضد تركيا ميدانياً وعلى مستوى الفعل السياسي. وعلى الرغم من أن تركيا وروسيا لم تدخلا في حالة مواجهة مباشرة في ليبيا، فإنهما لم تتوصلا أيضاً إلى صيغة توافقية أو آلية تنسيقية كمسار أستانة في الحالة السورية. فبالنسبة إلى تركيا، تُعتبر -على خلاف روسيا- وحدة أراضي ليبيا أمراً مبدئياً لا تقبل المساومة عليه.

إن زيادة الحراك السياسي الأمريكي في ليبيا الهادف إلى احتواء الوجود الروسي من خلال تعزيز البنية والوحدة السياسية الليبية، الذي يترافق مع مساعٍ حثيثة تبذلها البعثة الأممية للدفع بالعملية السياسية بهذا الاتجاه، قد يساهم في إعادة ضبط المسار السياسي الليبي في المدى القريب.


جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي