ومعلوم أن الحركة تحرص تقليدياً على إدارة أي خلافات مع المملكة من خلال القنوات السياسية، وتتفادى اللجوء إلى الإعلام، لما تعلمه من حساسية السعودية البالغة تجاه النقد العلني، مما يثير التساؤل حول ما جدّ، وأوصل العلاقة إلى هذه المرحلة.
ويبدو أنه مما استفز الحركة غياب البعد الإنساني في السلوك السعودي، فبعد علاقة سياسية على أعلى المستويات عمرها ثلاثة عقود، يتم اعتقال الممثل السابق للحركة لدى السعودية محمد الخضري، وهو بمثابة دبلوماسي يمثّل شعباً وقضية، دون اعتبار لسنّه التي جاوزت ثمانين عاماً، أو حالته الصحية الصعبة، وكذلك تم اعتقال آخرين دون السماح لهم باصطحاب أدويتهم التي يحتاجون إليها، إضافة إلى تَعرُّض بعض المعتقلين للتعذيب.
وكانت ملامح الصدام بين الطرفين قد بدأت منذ عدة سنوات، من خلال تجريم السعودية التبرع للمقاومة، وتتبُّع أي مصالح تجارية تشتبه السعودية بأنها تدعم المقاومة، واعتقال العديد من قيادات الحركة منذ عام 2015، وتم الإفراج عنهم إبان آخر زيارة لقيادة الحركة إلى السعودية في العام ذاته، وصولاً إلى وصف الحركة بالإرهاب عقب الأزمة الخليجية وشنّ الحملات الإعلامية عليها.
دلالات الاعتقالات
وتقدم هذه الاعتقالات دليلاً جديداً على وجود تحول جذري في سياسة السعودية بشأن القضية الفلسطينية، مع ما تمثله من بعد سياسي وديني، إذ تميل القيادة السعودية الحالية بشكل متزايد إلى الانحياز للاحتلال في مواجهته مع الفلسطينيين. وذلك ضمن مشروعها لتشكيل "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، الذي تم الإعلان عنه إبان زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى المملكة، بذريعة مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. ومنذ ذلك الحين برز توجه استراتيجي سعودي بالتحالف مع دولة الاحتلال، وهذا ما يعني بطبيعة الحال معاداة كل من يعادي الاحتلال. ولذلك فإن السبب الرئيس لهذه الاعتقالات هو تقديم جانب من متطلبات هذا التحالف مع الاحتلال، وهو التعاون الأمني في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
ومن دوافع الاعتقالات أيضا التناغم مع مساعي الإدارة
الأمريكية في خنق المقاومة الفلسطينية، تمهيداً لتصفية القضية تحت اسم صفقة القرن.
ففي السياق العامّ للحدث نرى السعودية تضغط على الفلسطينيين بمختلف أطرافهم حتى
ينخرطوا في صفقة القرن طوعاً أو كرهاً، وذلك بتوظيف المال منحاً أو منعاً و"تجفيفاً للمنابع"، وصولاً إلى ابتزاز المقاومة والسعي للتأثير على
مسارها السياسي عبر اعتقال كوادرها ومناصريها وتعذيبهم ووضع اليد على شركات تشكّ
السعودية أنها تدعم المقاومة.
وفي ذات السياق رأينا كيف توترت علاقة السعودية مع كل من السلطة الفلسطينية والأردن بفعل ضغوطها عليهما للقبول بالمشروع الأمريكي للتسوية، وعدم إعاقته، خصوصا بشأن ملف القدس الذي تسعى السعودية لتعزيز دورها فيه لذات الغرض.
هل للسعودية مصلحة حقيقية في هذا التوجه؟
يتصادم هذا التوجه مع مبادئ وقيم دينية وأخلاقية جوهرية لدى الشعب السعودي وعموم الشعوب العربية والإسلامية، وهو بذلك مضر بمصالح السعودية الاستراتيجية، بل هو -على المدى البعيد- مهدّد لشرعية نظامها السياسي، التي شكّل البعد الديني إحدى أهم ركائزها، خصوصا أنها تحتضن الحرمين الشريفين، ويسمى ملكها بخادم الحرمين الشريفين، وهذا ما يجعلها أمام إلزام سياسي وأخلاقي بأن تدعم وتسند كل من يعمل لحماية ثالث الحرمين الشريفين.
وغني عن الدلالة دور المقاومة الفلسطينية عموما وحركة حماس خصوصا في الدفاع عن القدس والأقصى، ويكفي هنا استذكار أن الجبهة الوحيدة التي انتفضت عند نقل السفارة الأمريكية إلى القدس هي غزة، التي قدمت ما يزيد على 60 شهيداً في يوم واحد، وسلطت أنظار العالم على الأثر المدمر لسلوك الإدارة الأمريكية الساعي لتصفية القضية الفلسطينية.
ولكن يبدو أن من يقود السعودية أصبح بحاجة إلى تذكيره بحكمة العديد من أسلافه الذين رأوا في إضعاف الاحتلال مصلحة سعودية، إضافة إلى كونها مصلحة عربية وإسلامية، وواجباً أخلاقيّاً وإنسانيّاً ودينيّاً.
وفي ذات الصدد فمن المفيد أيضا التذكير بأن إسرائيل كيان غريب عن جسم المنطقة، يتناقض مع تاريخها ولغتها ودينها، وأنها ذات وظيفة استعمارية وارتباط غربي، لذلك فهي لم ولن تنسجم مع المنطقة، ولا مستقبل لها سوى الزوال عنها، وبالتالي فإن التحالف معها رهان خاسر، وذو كلفة داخلية وخارجية لا يحتملها أي نظام في أي دولة عربية أو إسلامية. خصوصاً أن الاحتلال حريص على إظهار هذا التحالف في العلن، كما أنه لا يرضى إلا بأن تكون له الهيمنة في المنطقة وأن يكون غيره أدوات وتابعين له.
وحالة الأردن خير شاهد على ذلك، إذ بعد توقيعه معاهدة السلام، وحرصه على "حسن الجوار" طوال عقود ماضية، يعد الاحتلال والإدارة الأمريكية خطة تسوية تهدّد الكيان- لا مجرد الاستقرار- الأردني.
وختاماً فإن هذا التوجه تجاه القضية الفلسطينية وحركة حماس غريب على السياسة السعودية، وملاحقة المقاومة وداعميها سلوك ظالم، يمنع المظلوم من مقاومة الظلم. وهو ما يشكّل عدواناً على الشعب وعلى القضية الفلسطينية، بل على حقوق عموم العرب والمسلمين. كما أن المسار الحالي يشكل مقامرة بالمستقبل السياسي للنظام السعودي، بل إن مآله انتحار سياسي له، إذ إن مصادمة القيم الجوهرية لدى عموم الشعب -كمعاداة الاحتلال ورفضه- تضرب شرعية النظام في الصميم.
ويجدر بكل من أصبح يرى القضية الفلسطينية عبئاً سياسيّاً عليه، أن يدرك أن الشعوب العربية والإسلامية -وفي مقدمتها الشعب السعودي- سترى في من لا يحرص على تحرير القدس من الاحتلال شخصاً غير مؤتمَن على المسجد الحرام والمسجد النبوي، مستحضرين المثل العربي القائل "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، ومتخوّفين من تحقق نبوءة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي رأى حال العرب عام 1929، فقال:
سيُلحِقونَ فلسطيناً بأندلسٍ ويعطفون عليها البيت والحرما
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.