مع مواجهة الجيش الروسي لهجوم مضادّ من قِبل أوكرانيا على طول جبهة القتال في منطقة الدونباس، عاد الحديث مؤخراً عن استخدام موسكو للأسلحة النووية، للفوز في الصراع والخروج من المستنقع الذي توجد فيه حالياً.
تسبّب حدثان رئيسيان في الرجوع إلى هذا الطرح: النقاش في روسيا حول استخدام الأسلحة النووية، وقرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وضع صواريخه التكتيكية النووية في بيلاروس.
"نار الخوف"
وأثار مقال للعالم السياسي الروسي سيرغي كاراجانوف، تحت عنوان "الاستخدام الحصري للأسلحة النووية لمنع كارثة عالمية وإنقاذ البشرية"، جدلاً واسعاً، إذ قال فيه: "يمكن أن يكشف الاستخدام المستبق للأسلحة النووية الروسية عن مدى خطورة روسيا على الغرب".
ويلفت -في مقاله الذي نُشر في مجلة بروفايل الروسية- إلى أنّه "يجب إعادة إشعال نار الخوف من أجل حل الصراع بين روسيا والغرب، وإلّا فإنّ البشرية محكوم عليها بالانقراض".
وأثارت رسالة كاراجانوف جدلاً ودفعت إلى ردود فعل عددٍ من مختصي العلوم السياسية الروس، رحّب بعضهم بها بحذرٍ، فيما يحذّر آخرون من هجوم نووي محتمل لا ينبغي أن يحدث أبداً، كونه خطراً قد يؤدي إلى خراب روسيا.
أمّا بالنسبة إلى قرار فلاديمير بوتين بنشر الأسلحة النووية في بيلاروس، فقد رأى الغرب في ذلك تهديداً مباشراً لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، لكنّه أيضاً قد يشكل ضغطاً إضافياً على دول البلطيق وبولندا لوقف دعم أوكرانيا عسكرياً، فيما يرى الجانب الروسي أنّ تنظيم تمارين تكتيكية بوجود سلاح نووي في بولندا يبرّر قرارها.
ونظراً إلى الجدل حول تصاعد الحرب ضدّ أوكرانيا والتهديدات ضدّ حلفائها، هل يمكن أن يفاجئ بوتين العالم بشنّ هجوم نووي على كييف أو على الجيش الأوكراني؟
ولفهم استراتيجية روسيا النووية، نحتاج إلى فهم مذهبها وأهدافها الحقيقية.
استراتيجية روسيا النووية
في 2 يونيو/حزيران 2020، وقّع الرئيس بوتين قانوناً يحمل اسم "مبادئ سياسة الردع النووي للاتحاد الروسي"، وجرى نشر نص القانون قبل بدء "العملية العسكرية الخاصة" بعامين، في الوقت الذي كانت فيه روسيا في ذروة قوّتها وكانت قد خرجت متفوقة من صراعات عديدة في القرم وسوريا وجورجيا، ونشر القانون في أعقاب إطلاق ما قالت عنه موسكو "أسلحة التكنولوجيا المضادة"، مثل الصواريخ فائقة الصوت أو الليزرات.
وعلى الصعيد الدولي، تأتي هذه الاستراتيجية الجديدة بعد خروج الولايات المتحدة من اتفاقية القوى النووية المتوسطة المدى (INF)، وخروج إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، والتوترات بين واشنطن وبكين.
ويحدّد "مذهب استخدام الأسلحة النووية" مبادئ وضعية الردع النووي الدفاعي البحتة، وتهدف هذه الوضعية إلى ردع الخصم المحتمل عن ارتكاب "عدوان" ضدّ روسيا و/أو حلفائها، ومنع تصعيد الصراع وإنهائه في ظروف تخدم موسكو و/أو حلفائها.
عندما يتحدث الروس عن "حلفائهم" فإنّهم يقصدون بيلاروس وأرمينيا، الّلتَين لديهما اتفاقيات دفاع مع روسيا، بيلاروس على وجه الخصوص، إذ نشرت روسيا فيها أسلحة النووية التكتيكية منذ 26 مايو/أيار 2023.
مذهب الردع النووي
من ناحية أخرى، تستبعد العقيدة الجديدة مفهوم "التصعيد من أجل الهيمنة"، إذ تذكر أنّ "روسيا تحافظ على قدراتها النووية إلى أدنى مستوى يكفي لتنفيذ مهمتها بمصداقية ونجاح".
بالإضافة إلى العقيدة التقليدية للاستجابة لهجوم نووي من العدو، أو مذهب الردع النووي، يقدم القانون مفهوماً جديداً لـ"التصعيد من أجل تخفيف التصعيد". وهدف هذا المفهوم الجديد هو "منع تصعيد الأعمال العسكرية والسماح بإنهائها في ظروف تخدم روسيا و/أو حلفائها".
وتنص المادة 5 من القانون على أنّ روسيا تعتبر استخدام الأسلحة النووية آخر خيار، وأنّها "ستبذل قصارى جهدها لتقليل التهديد النووي ومنع أزمة في العلاقات الدولية، يمكن أن تؤدي إلى نزاع مسلح، بما في ذلك النزاع النووي".
وهنا يكمن التناقض في استراتيجية روسيا النووية، فمذهب التصعيد من أجل التخفيف لا يستبعد استخدام التهديد النووي، سواء كان كلامياً أو عن طريق إعادة تموقع الترسانة النووية، باعتبارها وسيلة لتحقيق أهدافها.
من هذا المنظور يمكن اعتبار تهديدات بوتين وأفعاله في بيلاروس جزءاً من هذه الاستراتيجية.
ولدى روسيا ثلاث وسائل لضمان ردعها النووي، تتمثل في: الطيران الاستراتيجي، والغواصات الصاروخية، والصواريخ الباليستية. وتعتبر التحديثات الحالية وتحسين القوة النووية الروسية جزءاً من خطة لتعزيز قدرات روسيا العسكرية العامة ورفع مستوى تأثيرها الجيوسياسي، ومن المعروف أنّ الأسلحة النووية تمتلك قدرات هائلة في الردع، ويتطلب استخدامها ضوابط وتقييدات دقيقة ومسؤولية عالية.
فما هذا الخطر الذي يمكن أن يستدعي استجابة نووية من روسيا؟
مخاطر وأهداف
يعتقد الروس أنّ توجيه أو نشر سلاح نووي أو سلاح دمار شامل تجاه روسيا أو حلفائها يشكل خطراً، ولكن الخطر ليس دائماً مرادفاً لتهديد بأسلحة الدمار الشامل.
تنظر موسكو إلى تراكُم قوى الخصوم في المناطق البرية والبحرية المجاورة للاتحاد الروسي، ونشر دول الخصم لمنظومات الدفاع الصاروخي والصواريخ الباليستية والصواريخ الجوية قصيرة ومتوسطة المدى والأسلحة الدقيقة والأسلحة فائقة السرعة والطائرات دون طيار وأسلحة الطاقة الموجهة (مثل الليزر)، على أنّها مخاطر تتطلب وضع نظام الدفاع النووي الروسي في حالة تأهب.
هذا يمثل بوضوح حالة التصادم بين حلف شمال الأطلسي الواقعة اليوم، من خلال وكيلها الأوكراني وروسيا، وهذا ينطبق بشكل خاص على الوضع في كييف، إذ سلَّم حلفاؤها صواريخ طويلة المدى مثل ستورم شادو أو صواريخ تكتيكية مثل أتاكمز، قادرة على الضرب بعمق داخل الأراضي الروسية.
وتُحدَّد شروط استخدام روسيا للأسلحة النووية في المادة 27 من العقيدة النووية العسكرية، إذ جاء فيها: تتوقع روسيا استخدام الأسلحة الذرية "رداً على استخدام الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل ضد روسيا و/أو حلفائها، وأيضاً في حالة العدوان على الاتّحاد الروسي باستخدام أسلحة تقليدية عندما تتعرض وجودية الدولة للتهديد".
معلومات موثقة تفيد بإطلاق صاروخ باليستي ضدّ روسيا و/أو حلفائها.
استخدام الخصم للأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشامل ضدّ أراضي روسيا و/أو ضدّ أراضي أي حليف لموسكو.
هجوم ضدّ البنية التحتية الحيوية (العسكرية أو المدنية) التي قد تعرض قدرة روسيا على الردّ المضادّ للخطر.
العدوان على روسيا باستخدام أسلحة تقليدية قد تهدّد وجود الدولة نفسه.
في الختام، نستطيع القول إنّ سلسلة من الهزائم التكتيكية لروسيا في أوكرانيا -إذا حدثت- لا تشكل سبباً صريحاً لاستخدام الأسلحة النووية، خصوصاً باعتبارها وسيلة هجوم مباشرة، وتنحصر استخدامات موسكو للأسلحة النووية في الأسباب التي جرى ذكرها في "العقيدة النووية العسكرية"، كسلسلة من الهجمات تستهدف المؤسسة السياسية والعسكرية الروسية، شخص فلاديمير بوتين، أو قصف يستهدف المنشآت النووية الروسية على أراضيها ويسبب أضراراً.
ولو افترضنا -على سبيل المثال-، قام الجيش الأوكراني باستهدف مجمّع محطات الطاقة النووية المدني الروسي في نوفوفورونيج، على بُعد أقل من 400 كيلومتر من الحدود الأوكرانية، باستخدام صواريخ طويلة المدى -جرى التبرُّع بها من حلف شمال الأطلسي أو الموروثة من الاتحاد السوفييتي-، قد يكون الردّ من موسكو عن طريق استعمال الأسلحة النووية، ويمكن أن تشكل إمكانية أخرى لاستفزاز ردّ نووي روسي، كاستخدام الجيش الأوكراني لمتفجرات تحتوي على عناصر إشعاعية (قنبلة قذرة) أو أي عنصر كيميائي أو بكتيريولوجي.
إذا استخدم بوتين أسلوب التهديد النووي سلاحاً دبلوماسياً، فمن المستبعد جداً أن يُستخدَم ما لم تكن روسيا مُهدَّدة حقاً في كيانها وكيان نظامها.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.