عندما صعد الرئيس السابق دونالد ترمب على منصة مؤتمر العمل السياسي المحافظ CPAC قبل ما يقرب من أسبوع في ميريلاند بدى الأمر وكأن الساعة توقفت لبرهة لتعود للدوران ولكن هذه المرة للوراء. ففي ظل هتاف واسع من الحاضرين: "ترمب.. ترمب.. ترمب" و"يو أس أي، يو أس أي، يو أس أي"، أعلن الرجل الذي حكم لدورة واحدة أنه ينوي العودة إلى سباق الرئاسة بمعنويات ربما أكبر من ذي قبل.
فلم يعد ترغب ينادي في الجمهور: "أنا صوتكم" فحسب بل أصبح يناديهم: "أنا المحارب من أجلكم"، وهو بذلك يدق على وتر الخطاب الذي يرغب بسماعه هؤلاء الأنصار الذي يستنهض فيهم شعور الجندي في عالم كله أزمات وكوارث.
لم يتوقف ترمب عند هذا الحد، فذهب خطوة إلى الأمام، بلغة كلها تحدٍ، إلى إعلان أنه سيكون "صوت العدل" لأولئك الذي ظلموا أتباعه، وسيكون "عقاباً" لأولئك الذي خانوه وظلموه. إنها إذاً الروح القتالية السابقة التي رفعت شعار "جَعْل أمريكا عظيمة مجدداً" أو "ماغا" وهي اختصار لـMAKE AMERICA GREAT AGAIN.
لا يبدو أن مراهنة ترمب على "ماغا" مجدداً مجرد حملة علاقات عامة. على العكس، يبدو أنها لا تزال استراتيجية اللحظة نظراً للواقع الذي تمر به الولايات المتحدة والعالم من بعدها.
كان واضحاً في خطابه عندما صرح بأنه سيعود لكي يكمل ما بدأه. وبالرغم من أنه لا أحد يعرف على وجه الحقيقة ما يريد ترمب يبدو أن عودته سوف تشكّل مرة أخرى ضربة موجعة للمؤسسة السياسية في واشنطن وللحاضنة الليبرالية من خلفها. والسؤال الآن، هل تعد فعلاً "ماغا" استراتيجية اللحظة أم مجرد خطابات للاستهلاك في السباقات الانتخابية؟
في الحقيقة كانت الإجابة ستكون صعبة قبل يومين وتحديداً قبل انهيار بنك السيليكون فالي، وكانت ستكون أصعب قبل سنة أيضاً أي قبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية. فكلا الحدثين يحيلان إلى أزمة خانقة في النظام الدولي تمس بناه السياسية والاقتصادية. وهي أزمة يهتز على وقعها هذا النظام الدولي الهش فتحدث شقوقاً تتسل منها التيارات الشعبوية واليمينة المتطرفة إلى الحكم. وإذا كان الأمل قد ساور عديداً بأن الشعبوية المتطرفة بعد أفول نجم ترمب عام 2020 خفَّ أوارها، فاليوم يبدو أملهم هذا كالبطة العرجاء مع عودة الشعبوية بزخم أكبر وثقة بالنفس.
فواحدة من أبرز الدعائم التي بنى عليها ترمب حملته الأولى التي ظفر بها بالبيت الأبيض عام 2016 كانت وعوده التي قطعها على نفسه للناخب الأمريكي، خصوصاً في الولايات الداخلية التي كانت تشكل عصب الصناعة الأمريكية، بأنه سوف يجلب لهم الوظائف مرة أخرى من خلف المحيطات. وهي الوظائف التي كانت السياسة الليبرالية الحديثة دفعت بها خارج حدود دول المركز إلى دول الهامش كالصين وفيتنام وغيرها بحثاً عن يد عاملة أرخص وظروف عمل أقل رقابة من أجل تخفيض التكلفة وبالتالي رفع العوائد المالية.
لم يستطع ترمب أن يوفي بهذا الوعد في ظل فترة الحكم القصيرة التي نالها والتي استمرت لولاية واحدة فقط.
لم يحمل انتخاب الرئيس بايدن، بطبيعة الحال، أي أمل لأولئك الذين كانوا ينتظرون الوظائف أن تعود إلى الوطن. بل على العكس، أدت جائحة كورونا من جانب، والعسر الاقتصادي الذي نتج عنها بسبب الإغلاقات الجماعية الشاملة، والحرب الأوكرانية من جانب آخر، التي أججت الحرب الاقتصادية بين الغرب وبين روسيا وهو ما انعكس سلباً على الاقتصاد الدولي جرّاء ارتفاع أسعار المحروقات والغداء، كل ذلك أدى إلى تناقص كبير في ثقة المواطنين تجاه قدرة النظام الحالي والقائمين عليه على تجاوز الأزمة وتأمين حياة مستقرة للناس.
ففيما يتعلق بالتضخم على سبيل المثال، شهدت الولايات المتحدة معدلات تضخم أعلى في عام 2021 مقارنة بالسنوات السابقة. اعتباراً من أغسطس/آب 2021، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك (CPI)، الذي يقيس متوسط تغير السعر بمرور الوقت لسلة من السلع والخدمات، بنسبة 5.3٪ خلال السنة السابقة وهو أعلى من متوسط معدل التضخم في العقد الماضي، والذي كان حوالي 1.8٪.
ليس هذا فحسب بل شهد أبرز القطاعات الاقتصادية، وهو القطاع التكنولوجي، أزمة حادة تمثلت بالتسريحات الجماعية من الوظائف. تشير التقديرات إلى أن "أكثر من 159 ألف عامل في مجال التكنولوجيا فقدوا وظائفهم في عام 2022، و78 ألفاً في يناير/كانون الثاني 2023 وحده. منذ عام 1996، عانى أكثر من 30 مليون عامل من ظاهرة التسريح الجماعي للعمال والموظفين، وهو ما يمثل تقريباً خُمس القوة العاملة في الولايات المتحدة وحدها".
بطبيعة الحال، جاءت أزمة بنك وادي السيليكون وانهياره لتصب الزيت على النار. فهذه أكبر حالة انهيار لبنك بهذا الحجم (يحتل رقم 16 على مستوى الولايات المتحدة) منذ الأزمة المالية 2008 الأمر الذي يزيد حالة الغموض التي تكتنف الاقتصاد الأمريكي ومن خلفه الاقتصاد العالمي.
سيعمل ترمب بكل تأكيد على استثمار هذا الوضع من أجل تعزيز روايته فيما يتعلق بسياسته الاقتصادية التي قامت في الأساس على "أمريكا أولاً" وهو ما يعني تعزيز الحمائية وفرض التعرفة على الواردات من أجل تنشيط القطاعات المحلية. إنها لحظة "ماغا" إذن.
ليس هذا فحسب. فعلى صعيد متصل، يحاول ترمب الاستثمار في الحرب الأوكرانية من خلال الترويج أنه القادر "وحده" على إنهاء الحرب "مباشرة" حال عودته إلى البيت الأبيض. يعرف ترمب جيداً أن الشارع الأمريكي بدأ يضيق ذرعاً من الحرب التي باتت تمس كل بيت في الولايات المتحدة من خلال ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء، وأنه يؤيد حلاً دبلوماسياً فورياً لها.
ترتبط الحروب والنزاعات أيضاً بظاهر الهجرة غير الشرعية واللجوء وهي من المواضيع التي تحتل مكانة محورية في خطاب الرئيس ترمب، لأهميتها ومحوريتها لدى قاعدته الانتخابية والتي باتت تستشعر التهديد "الثقافي" الذي تفرضه الهجرة على المجتمعات الغربية والتي حسب اعتقادهم تغير النسيج الاجتماعي في الدول الغربية. مرة أخرى إنها لحظة "ماغا".
لا يزال السباق الانتخابي في الولايات المتحدة في بداياته. توجد محاولات لإقصاء ترمب قضائياً من خلال ملفات التحريض المتعلقة بعملية اقتحام الكونغرس في يناير 2020. لذلك الجزم بنتيجة الانتخابات سابق لأوانه ولكن يمكن القول إن نفس الظروف التي أتت بترمب في عام 2016 موجودة اليوم، وربما بدرجة أسوأ.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.