"زيلدا المفخخة".. المدرعة العجوز تعود إلى غزة بروح انتحارية
الحرب على غزة
8 دقيقة قراءة
"زيلدا المفخخة".. المدرعة العجوز تعود إلى غزة بروح انتحاريةيتناول المقال كيفية إعادة توظيف مدرعات M113 الإسرائيلية وتحويلها من ناقلات جنود تقليدية إلى آليات مفخخة تُدار من بُعد، تبدأ مهامها بالاستطلاع قبل أن تُستخدم وسائل انتحارية لتدمير الأحياء.
اعتمد الجيش الإسرائيلي منذ سنوات على أنظمة التشغيل عن بُعد، حيث بدأ استخدامها في إطار محدود للكشف عن العبوات الناسفة والتخلّص منها. / Reuters
بواسطة عماد ناصر
4 سبتمبر 2025

تتردّد في أرجاء قطاع غزة أصوات انفجارات مروّعة تهزّ الأحياء السكنية بعنف غير مألوف في الذاكرة الحديثة للغزيين. لكن هذه الأصوات ليست دوماً نتيجة غارات جوية أو قذائف مدفعية، وإن كانت لم تتوقف؛ ففي كثير من الحالات تقف وراءها مركبات مفخخة تُدار من بُعد، أطلقتها وحدات إسرائيلية لتقتحم قلب الأحياء المكتظة.

فقد أدخلت الحرب الإسرائيلية أداة جديدة في مسارها التدميري: تحويل ناقلات الجند القديمة من مركبات متقادمة إلى آلات انتحارية آلية، لا تُستخدم لحماية الجنود كما صُممت، بل لتفجير البيوت، وتدمير المباني، وبثّ الرعب النفسي قبل أي شيء آخر.

يناقش هذا المقال دوافع استخدام هذه الوسائل المستحدثة -من الروبوتات المتفجرة والمدرعات المسيّرة- وتأثيرها في توسيع نطاق التدمير الممنهج الذي يتعرض له القطاع.

الآلة بدل الجندي

اعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات على أنظمة التشغيل من بُعد، حيث بدأ استخدامها في إطار محدود للكشف عن العبوات الناسفة والتخلّص منها. ومع تصاعد التهديد الذي مثّلته الأنفاق في غزة، لجأت وحدات الهندسة إلى ابتكار طائرات مسيّرة صغيرة للعمل في البيئات المغلقة، بهدف استكشاف الأنفاق قبل دخولها.

التحوّل الأكبر جاء مع ولاية رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، الذي صاغ الخطة الخمسية المعروفة باسم "جدعون". هذه الخطة منحت التكنولوجيا موقع الصدارة، بوصفها أداة رئيسية لتعويض القصور الذي ظهر خلال حرب غزة عام 2014، حين تكبدت القوات البرية خسائر فادحة نتيجة ضعف الحماية وقلة الوسائل التقنية المساندة. ومنذ ذلك الوقت، تكثّف العمل على تطوير نماذج متعددة من الروبوتات الموجّهة من بُعد، سواء لنقل الإمدادات أو إخلاء الجرحى أو الدعم اللوجيستي.

في الحرب الراهنة على قطاع غزة، برز إدخال جرافة "باندا"، وهي نسخة معدلة من جرافة كاتربيلر D9، جرى تزويدها بأنظمة تحكم من بُعد لتعمل في أصعب الظروف الميدانية. هذه الجرافة عادةً ما تتقدّم القوات لفتح الطرق وتحمل العبء الأول من النيران والعبوات.

الانتقال الأوسع كان في عملية احتلال رفح، حيث استُخدمت المدرعة M113 المسيّرة للمرة الأولى عند وصول القوات الإسرائيلية إلى منطقة تل زعرب، غرب المدينة. وقد ظهرت حينها في مقدمة القوة الاستطلاعية مزوّدة بوسائل للرؤية والاستشعار، إضافةً إلى رشاش ثقيل يُدار من بُعد. ومع مرور الوقت، تحوّل استخدامها من مهام الاستطلاع إلى أدوار أشد خطورة، بعدما جرى تفخيخها وتحويلها إلى منصات انتحارية، أو تجهيزها لحمل روبوتات مفخخة أصغر حجماً.

هذا التطوّر يثير تساؤلات حول سبب التركيز المكثف على المدرعة M113 تحديداً، وتحويلها إلى أداة رئيسية في العمليات الجديدة، بدل الاكتفاء بوظيفتها الأصلية ناقلة جنود مدرعة.

عربة الكوارث

تسلَّمت إسرائيل أولى المدرعات من طراز إم 113 في مطلع السبعينيات، ولكن الدفعات الكبرى وصلت في أثناء الجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول مع مصر عام 1973، وأطلق عليها الجيش اسم "بارديلاس"، وهي كلمة عبرية تعني الفهد، وعُرفت اعلامياً باسم "زيلدا".

وصل إلى الاحتلال الإسرائيلي ما يزيد على ستة آلاف مدرعة من هذا الطراز موزعةً على نحو 40 نموذجاً مختلفاً، منها ما هو مخصَّص لنقل الأفراد، والإسعاف، والدفاع الجوي، والصيانة، أو لأطقم الصواريخ المضادة للدروع، وعديد من النماذج الأخرى.

 وقد مرت هذه المدرعة بأحداث مفصلية في تاريخ خدمتها في جيش الاحتلال الإسرائيلي، كان أبرزها عملية "كارثة ناقلات الجند المدرعة" في مايو/أيار 2004 حينما جرى تفجير لمدرعة إم 113 في الحادي عشر من مايو/أيار على مشارف حي الزيتون جنوب مدينة غزة، أوقع ستة قتلى من طاقم المدرعة ونثر أشلاءهم في المكان.

في اليوم التالي أُطلقت قذيفة آر بي جي مضادة للدروع ضد قوة هندسية داخل مدرعة إم 113 تحمل مواد شديدة الانفجار، وتعمل خصيصاً لمكافحة الأنفاق المنتشرة على محور فيلادلفيا جنوب مدينة رفح، فأدى ضربها إلى تفتت المدرعات وتحول الجنود إلى أشلاء.

والحادثة الأبرز التي كانت مفرق طرق في تاريخ هذه المدرعة هي عملية أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون، في حي التفاح شرقي مدينة غزة خلال حرب عام 2014 على قطاع غزة، بعد ضرب المدرعة بقذيفة آر بي جي ومقتل طاقمها.

بعد انتهاء حرب 2014 وعقب العملية المؤثرة ضد مدرعة إم 113، قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي سحبها كلياً من الخدمة بعد تحقيق أجراه، خلص إلى أن المدرعة لا تصمد في وجه القذائف المضادة للدروع والعبوات الأرضية والجانبية.

ولم تعد المدرعة تُستخدم في العمليات الهجومية أو في النسق الأول، وبقيت تخدم في وحدات الدعم القتالي المختلفة، وقد قرر الاحتلال الإسرائيلي استبدال مدرعات نامير ومدرعة "إيتان" المدولبة التي دخلت الخدمة خلال الحرب الحالية على قطاع غزة، بها.

بعد إخراجها من العمليات القتالية، أُعيد توظيف المدرعة إم 113، على أنها منصة تعمل من بُعد، فقد نشطت برامج لتطويرها مسبقاً منذ عام 2013 ضمن فئة تسمى "RCV"، وهي اختصار "مركبة القتال الروبوتية"، وجرى تركيب حزمة تكنولوجية على المدرعة لتمكينها من العمل من بعد أو حتى بشكل مستقل بالكامل، واستُخدمت عملياتياً لأول مرة بشكل محدود في حرب 2014 في قطاع غزة حسبما ذكر موقع “ماكو”.

وقد برز اسم المدرعة مؤخراً في حرب الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، بسبب استخدامها المكثف بوصفها يمكن التحكّم بها من بُعد، وبدأ استخدامها في العمليات الاستطلاعية وفي مقدمة الأرتال، وللقتال أحياناً من خلال الرشاش المزودة به، ولتحفيز المقاتلين في منطقة العمليات للخروج من مكامنهم والتعامل معها، ظناً منهم أنها مأهولة، مما يكشف عن مواضع وجودهم دون خسارة الجيش لجنوده.

استُخدم هذا النموذج بكثرة في مدينة رفح منذ مايو/أيار 2024، ولاحقاً في مدينة جباليا شمال القطاع.

الاستطلاع وتفجير العبوات 

لم يستمر دور المدرعة M113 المسيّرة على المهام الاستطلاعية إلا لفترة وجيزة، قبل أن يبدأ الاحتلال الإسرائيلي بتحويلها إلى مدرعة انتحارية محمّلة بأطنان من المواد شديدة الانفجار، تُستخدم لنسف الأحياء السكنية وتهيئتها لاقتحام القوات البرية.

الهدف المركزي من هذا التحول هو تجنيب الجنود الإسرائيليين الدخول المباشر إلى الأحياء المكتظة والتعرض للكمائن الهندسية التي أعدتها المقاومة.

يُنتج انفجار هذه المدرعة موجة صدمية هائلة تعطل العبوات الناسفة والشراك الخداعية المزروعة مسبقاً، وتُصيب من احتمى بجدران المنازل داخل منطقة التفجير.

ورغم أن التفجير لا ينسف المباني بالكامل في معظم الأحيان، فإنه يُلحق بها أضراراً هيكلية جسيمة تسهّل على الوحدات الهندسية لاحقاً استكمال تدميرها.

كما يؤدي الانفجار إلى إسقاط جدران المنازل، ما يجعلها مكشوفة أمام القوات المتوغلة، ويُفقد مقاتلي المقاومة القدرة على الاحتماء بها. إلى جانب ذلك، يشكل الانفجار عاملاً نفسياً ضاغطاً على السكان والمقاتلين على حد سواء.

اختيار الجيش هذه المدرعة تحديداً يعود إلى عدة أسباب؛ أهمها وفرتها الكبيرة في مخازنه الموزعة على الفرق النظامية والاحتياطية، إضافةً إلى أن تصميمها المحكم الإغلاق وهيكلها المصنوع من الألمنيوم يجعلانها وعاءً مثالياً للمتفجرات، إذ يسهم في تضخيم الموجة الانفجارية الناتجة عن التفجير.

ووفق موقع واللا الإسرائيلي، فإن تفجير مدرعة واحدة من هذا النوع يعادل انفجار خمس قنابل "جدام" من طراز MK-84، التي يبلغ وزن الواحدة منها نحو طن. أي إن كل مدرعة محملة بما لا يقل عن خمسة أطنان من المواد شديدة الانفجار.

الموقع ذاته يشير إلى أن هذه المدرعات تُستخدم ضمن عملية أطلق عليها الجيش اسم "هز الشوارع"، بهدف تفجير العبوات الناسفة المزروعة مسبقاً وتحييد المخاطر قبل دخول القوات. كما ذكر أن هذه الروبوتات الانتحارية استُخدمت أيضاً في عمليات نفّذها الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان ضد حزب الله.

ولا يتوقف الأمر عند حدود المدرعات الانتحارية، إذ يستعين الاحتلال الإسرائيلي كذلك بمفخخات روبوتية متنوعة بأحجام مختلفة.

وحسب شهادات ميدانية ومقاطع مصورة، جرى توثيق استخدام مدرعات M113 منصاتٍ لإيصال صناديق متفجرة صغيرة داخل المنازل أو مداخل البنايات، ليجري تفجير الهدف نفسه مباشرةً. في أحيان أخرى، تُركت المدرعة نفسها داخل المنزل لتفجير المبنى بكامله. هذه الأساليب المتعددة تختلف حسب طبيعة الهدف، لكنها تشترك جميعاً في غاية واحدة: إحداث أكبر قدر ممكن من التدمير.

الروبوت بدلاً من الصاروخ 

مع مرور أكثر من عام على إدخال الروبوتات المفخخة إلى ساحة الحرب، باتت هذه الوسيلة مسؤولة عن تدمير آلاف المنازل في قطاع غزة، بشكل مباشر أو غير مباشر. فمن عملية نسف ومسح مدينة رفح، مروراً بجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، وصولاً إلى خان يونس التي أُثقلت أحياؤها المكتظة بسلسلة من التفجيرات، وانتهاءً بمدينة غزة التي تتعرض اليوم لعملية محو ممنهج عبر الاستخدام الكثيف لهذه المدرعات المسيّرة… يُعتقد أن أحد الدوافع الأساسية وراء اعتماد جيش الاحتلال الإسرائيلي على هذه التقنية هو الاقتصاد في القوة. فبدلاً من استنزاف مخزونه من القنابل عالية الدقة في القصف الجوي، لجأ الجيش إلى استخدام الروبوتات المفخخة.

ويعود ذلك جزئياً إلى النقص الذي واجهه في الأشهر الأولى من الحرب بفعل تجميد إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، توريد شحنات القنابل وأنظمة التوجيه "جدام".

هذا الأمر دفع الصناعات العسكرية الإسرائيلية إلى تطوير أنظمة بديلة محلية للتغطية على العجز والحفاظ على ما تبقى من المخزون الأمريكي.

ويشير موقع "مكور ريشون" الإسرائيلي إلى أن استخدام الروبوتات المفخخة جاء أيضاً بديلاً عن منظومة "الأفعى المدرعة"، التي تعتمد عليها الوحدات الهندسية عادةً في تطهير حقول الألغام وفتح الطرق. فالتوجه الجديد هدفه الأساس الحفاظ على المخزون من قنابل هذه المنظومة لاستخدامها في جبهات أو مسارح عملياتية أخرى، في حال اندلاع حروب إضافية.

غير أن هذا التحول ينطوي على مخاطر استراتيجية؛ إذ إن فشل آلية التفجير يترك الروبوت محمّلاً ببقايا المتفجرات، وقد سُجّلت حالات استحوذت فيها المقاومة على هذه المدرعات بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من بعض المناطق، واستخدمتها لاحقاً في تصنيع العبوات الناسفة ونصب الكمائن. ولتفادي ذلك، يلجأ الجنود الإسرائيليون عادةً إلى إطلاق قذائف على الروبوتات لتعطيلها وتفجيرها من بعد، خشية اقتراب المقاتلين الفلسطينيين منها.

ويؤكد الموقع، نقلاً عن ضابط في سلاح الهندسة الإسرائيلي، أن الهدف المباشر من هذا الاستخدام هو توفير الألغام والصواريخ. كما يكشف عن سياسة متَّبَعة في الجيش خلال الفترة الأخيرة تقوم على استبدال مسيّرات رباعية المراوح مفخَّخة لا تتجاوز تكلفتها بضع مئات من الدولارات، بالصواريخ الدقيقة مرتفعة الثمن، ما يوفر مبالغ طائلة ويتيح استمرار العمليات رغم ضغط الموارد.

تكشف هذه الاستراتيجية عن تحول نوعي في أدوات الحرب الإسرائيلية، يضيف فصلاً جديداً إلى سجل التدمير الممنهج في قطاع غزة.

فالمدرعة التي صُممت أصلاً لنقل الجنود أُعيد توظيفها لتصبح وسيلة تفجير ضخمة، هدفها إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية، وإرهاب السكان. ويعكس هذا التوجه تغيراً عقائدياً في إدارة القتال: من المواجهة البرية المباشرة، إلى فتح الممرات بالمفخخات من بُعد، إلى تقليل الاحتكاك مع القوات وتقليص الخسائر البشرية، إلى جانب إدارة دقيقة لمخزونات الذخيرة في إطار سياسة "الاقتصاد بالقوة".

مصدر:TRT Arabi
اكتشف
رئيس الاستخبارات السابق في تسجيلات مسرّبة.. ماذا قال عن 7 أكتوبر وقيادة الجيش؟
توماس باراك: لبنان اتخذ الخطوة الأولى بقرار حصر السلاح بيد الدولة وعلى إسرائيل اتخاذ خطوة في المقابل
شهداء وجرحى في مجازر جديدة للاحتلال بقطاع غزة.. والعفو الدولية: إسرائيل تطبق سياسة تجويع متعمدة
لسد نقص الجنود.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يخطط لاستقدام مُجندين من اليهود في الخارج
أكثر من مليون إسرائيلي يشاركون في إضراب عامّ ومظاهرات ضد نتنياهو
أكثر من 40 مفقوداً بعد غرق قارب في ولاية سوكوتو بنيجيريا
رئيس الأركان الإسرائيلي يصدّق على خطة احتلال غزة و"الكابينت" يعقد اجتماعاً نهاية الأسبوع لإقرارها
رئيس الوزراء الفلسطيني يبحث في مصر حرب غزة قبيل توجهه لزيارة معبر رفح
إضراب عام واحتجاجات حاشدة في تل أبيب بمشاركة غالانت واعتقال عشرات المتظاهرين
"لمخالفتها القوانين".. الحكومة الليبية تقرر منع أنشطة شركة "هواوي" داخل البلاد
قادة أوروبا يجتمعون من أجل أوكرانيا.. وزيلينسكي يستعد للقاء ترمب
"لإصابته بالجرب"..  تدهور صحة معتقل فلسطيني داخل سجن النقب الإسرائيلي
258 شهيداً بسبب التجويع في غزة وممرضة أمريكية: سوء التغذية يضرب الطواقم الطبية
ثلاثة قتلى و8 مصابين في عملية إطلاق نار بمدينة نيويورك الأمريكية
قوات الاحتلال تشن حملة اعتقالات واسعة ومستوطنون يقتحمون الأقصى ويعتدون على فلسطينيين بالضفة