بعد شهور طويلة من الود الذي طبع العلاقة بين بولندا وأوكرانيا، كانت فيها وارسو من أشد المتحمسين لدعم كييف بالسلاح ومواقف السياسية في الاتحاد الأوروبي والناتو، أتت مشادات كلامية بين مسؤولي البلدين لتعكر صفو هذا التقارب. وتعيش العلاقات الأوكرانية-البولندية في هذه الأيام أسوأ لحظاتها منذ اندلاع الحرب، بعد أن تطورت الخلافات إلى استدعاء البلدين سفيريهما.
فيما تعود جذور الأزمة الجارية إلى الخلاف حول صادرات الحبوب الأوكرانية عبر بولندا، الذي يحتج ضده المزارعون البولنديون خوفاً من التأثير على أسعار محاصيلهم، فيما أصبح هذا الخلاف، مضافاً إلى موضوع اللاجئين الأوكرانيين، ملفين ساخنين يُطرحان بشدة خلال التنافس الانتخابي الشرس الذي من المزمع أن تشهده البلاد بعد شهرين.
أزمة بين كييف ووارسو
بدأت الأزمة الدبلوماسية الجارية بين بولندا وأوكرانيا، حسب رويترز، حينما صرّح مستشار السياسة الخارجية للرئيس البولندي مارسين برزيداتش، بأنه على كييف إظهار مزيد من التقدير لدعم وارسو في حربها مع روسيا. مضيفاً أن على الحكومة البولندية أن تدافع عن مصالح مزارعيها، في إشارة مخاوف هؤلاء المزارعين من صادرات الحبوب الأوكرانية عبر أراضي البلاد.
وأثارت هذه التصريحات ردود فعل غاضبة في كييف، وقال نائب رئيس مكتب الرئيس الأوكراني أندري سيبيها: "نرفض رفضاً قاطعاً محاولات بعض السياسيين البولنديين فرض فكرة لا أساس لها من الصحة على المجتمع البولندي بأن أوكرانيا لا تقدّر المساعدة من بولندا"، مضيفاً: "الأوكرانيون هم من يحمي قيم منطقتنا وأمنها، وهم يفعلون ذلك أيضاً لمصلحة بولندا والعالم الحر بأسره (...)، دعم أوكرانيا ليس صدقة، بل استثمار".
واستدعت الخارجية الأوكرانية السفير البولندي وأبلغته شجبها تصريحات برزيداتش. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأوكرانية أوليه نيكولينكو في بيان، إن التصريحات عن عدم امتنان أوكرانيا المزعوم لمساعدة بولندا "غير صحيحة وغير مقبولة". وأتبع البيان: "نحن مقتنعون بأن الصداقة الأوكرانية-البولندية أعمق بكثير من النفعية السياسية. يجب أن لا تثير السياسة الشكوك في التفاهم المتبادل وقوة العلاقات بين شعبينا".
وردّت خارجية بولندا بالمثل، باستدعائها السفير الأوكراني ردّاً على "تعليقات ممثلي السلطات الأوكرانية"، كما جاء في تغريدة لوزارة الخارجية البولندية على منصة إكس (تويتر سابقاً).
وفي تغريدة أخرى يوم الأربعاء، قالت الخارجية البولندية إن بلادها "تريد علاقات جيدة مع أوكرانيا، تقوم على أساس الاحترام المتبادل وفهم المصالح الوطنية"، مؤكدة أنه "يجيب بين الشركاء تَجنُّب الأقوال والأفعال التي تضرّ بالعلاقات الجيدة". وأضاف البلاغ: "تتوقع بولندا أن تكون أوكرانيا مستعدة لأخذ موقفنا بعين الاعتبار، على سبيل المثال في ما يتعلق بحماية الزراعة، وأيضاً في قضايا أخرى".
مأزق الحبوب الأوكرانية
يعود الخلاف حول الحبوب الأوكرانية إلى شهر أبريل/نيسان الماضي، حينما احتجّ مزارعون بولنديون على مرور الصادرات الأوكرانية عبر بلادهم، متخوفين من الخسائر المادية التي يمكن أن يتعرضوا لها نتيجة الأسعار المنخفضة جدّاً لحبوب كييف.
واستجابت الحكومة البولندية لضغط المزارعين، وقرّرَت حظر استيراد المنتجات الزراعية من أوكرانيا مؤقتاً. ووقتها أوضح مكتب رئيس الوزراء البولندي أن هذه الخطوة كانت "لحماية السوق الزراعية البولندية من اضطراب استقراره". كما برّر زعيم حزب العدالة والقانون الحاكم في بولندا ياروسلاف كاتشينسكي القرار بأن بلاده ملتزمةٌ "مواصلة دعم أوكرانيا، ومع ذلك من واجبنا حماية مواطنينا ومزارعينا وتَجنُّب أزمة زراعتنا".
وفي 18 أبريل/نيسان الماضي، توصل الوفدان البولندي والأوكراني إلى اتفاق، يُسمح بموجبه باستمرار مرور المحاصيل الأوكرانية عبر بولندا. وعقب ذاك صرّح وزير الزراعة البولندي روبرت تيلوس: "لقد تمكنَّا من وضع آليات لنقل البضائع حتى لا يتبقى طنّ من القمح في بولندا".
وأضاف الوزير موضحاً هذه الإجراءات: "لفترة معينة، ستذهب جميع وسائل النقل عبر البلاد في قافلة. وسترافق سلطات الجمارك والضرائب الشحنات إلى وجهتها، أي إلى الحدود أو المواني البولندية"، بالإضافة إلى تنفيذ نظام إلكتروني للرقابة على النقل، إلى جانب تركيب أختام بنظام GPS لتعقب الشاحنات.
ويرجّح مراقبون عودة هذا الخلاف ليطرح نفسه، لاقتراب نهاية عمر الاتفاق بين الحكومتين، بما يحتّم عليهما الرجوع إلى مفاوضات كانت صعبة حتى في نسخته الأولى، وبسبب الوضع الجديد الذي أفرزه انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب عبر البحر الأسود ومحاصرتها المواني الأوكرانية، ما يعني تدفق شحنات من المحاصيل الأوكرانية على الأراضي البولندية أكبر مما كانت عليه في أبريل/نيسان الماضي.
أوكرانيا في الحملة الانتخابية البولندية
أصبحت مسألة صادرات الحبوب الأوكرانية تمثّل موضوعاً انتخابياً في بولندا، التي تترقب إجراء انتخابات عامة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. ووفق تقرير لبلومبرغ، فإن قرار الحكومة البولندية حظر الصادرات، هو محاولة لكسب أصوات لمزارعين، الذين يمثّلون دائرة انتخابية مهمة لحزب القانون والعدالة الحاكم من أجل الحصول على ولاية ثالثة.
من ناحية أخرى، ليست هذه القضية الوحيدة التي تحضر فيها أوكرانيا في الانتخابات البولندية، بل أيضاً في مواقف أحزاب اليمين المتطرف والقوميين البولنديين المعادية لأوكرانيا وللاجئين الأوكرانيين. وتتحدَّث تقارير سابقة عن تصاعد شعور معادي للاجئين الأوكران في بولندا، وهو ما يمثّل بيئة مثالية لصعود هذه الأحزاب.
ومن هذه الأحزاب حزب كونفدراتسيا اليميني المتطرف، الذي عُرف منذ بداية الحرب بمناصرته لروسيا انطلاقاً من منطق قومي بولندي.
وحسب "مركز دراسات السياسات الأوروبية"، وهو مؤسسة بحثية مقرها واشنطن، فإن حزب كونفدراتسيا يستغلّ في حملته الانتخابية الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد جراء التضخم المرتفع، وكذلك الامتعاض الشعبي من تدفق اللاجئين الأوكرانيين والخوف من تصاعد الحرب.
ويجادل زعيم الحزب روبرت وينيكي، في أكثر من تصريح، بأن الوجود العسكري الأمريكي في بولندا يدلّ على "تبعية " البلاد، كما ينتقد حجم المساعدة العسكرية البولندية لأوكرانيا. ويرى وينيكي أن دول الجناح الشرقي لحلف الناتو لا ينبغي أن تكون هي الداعم العسكري لأوكرانيا، وبدلاً من ذلك يجب أن يلعب الحلفاء "البعيدون جغرافياً عن روسيا" دوراً أكبر في هذ الدعم.
وترجّح استطلاعات أخيرة أن حزب كونفدراتسيا سيمثل مفتاح تشكيل الأغلبيات الحكومية التي ستفرزها الانتخابات، نتيجة للتقارب في نيات التصويت بين الائتلاف اليميني الحاكم والتيار المدني المعارض له.





















