لم تنتصر تركيا في معارك "الهجوم الكبير" بين 26 أغسطس/آب و18 سبتمبر/أيلول 1922 في ليلة وضحاها، بل كانت حلقة من سلسلة نضال وطني طويل بدأ قبلها بأكثر من ثلاث سنوات، بمشاركة وجهود شعبها.
وعلى مرّ تاريخ تركيا وفي الفترة الممتدّة من الدولة العثمانية إلى الوقت الحاضر، خرجت النساء المحاربات إلى ميادين النضال بعزيمة وإصرار عند أدنى تهديدٍ لبلادِهن ومستقبلها.
وبدايةً من المؤسسات التي تقدّم الدعم الاجتماعي والاقتصادي وحتى الجبهات الأمامية في المعارك، لعبت المرأة التركية دوراً مهماً خلال حرب الاستقلال.
ورغم أنّ بعضاً من سيرة بطلات النضال الوطني ضاعت بين صفحات التاريخ المجهولة، فإن نساءً أيضاً خلّدهن التاريخ بأسمائهن ونضالاتهن، فكان منهن ناشطات في المنظمات الخيرية الداعمة للجنود، ومنهن من تقود المسيرات الشعبية، ومنهن من حملت الأسلحة في ساحة الحرب.
دور النساء في المسيرات الشعبية
كان للمسيرات التي برزت فيها النساء لا سيّما تلك التي خرجت في إسطنبول بعد الاحتلال اليوناني لمدينة إزمير، تأثير كبير في النضال الوطني، وكان أول حشدٍ في منطقة الفاتح وسط إسطنبول في 19 مايو/أيار 1919، الذي نظمته مدرسة دار الفنون للإناث وجمعية النساء المعاصرات.
وفي تلك المسيرة التي شارك فيها نساء يحملن شعارات "إزمير ستبقى تركية" على قمصانهن، ألقت الكاتبة المعروفة خالدة أديب، خطاباً وسط 50 ألف شخص، بعث الأمل في نفوس الناس وزاد مشاعرهم الوطنية، قائلةً: "يعيش الأتراك والمسلمون اليوم أحلك لياليهم، لكن لا ليل في حياة الإنسان دون صباح، غداً سنمزّق هذا الليل ونخلق صباحاً مشرقاً. اليوم، ليس لدينا مدفع ولا بندقية، ولكن لدينا سلاح أكبر وأقوى من ذلك، سلاحنا هو الحق، والله".
واصلتْ النساء عقد المسيرات لدعم النضال الوطني في مختلف مناطق إسطنبول، وبعد أن أصدر الاحتلال قراراً بالقبض على خالدة أديب، بعد مسيرة السلطان أحمد التي نُظمت في 23 مايو/أيار والتي خطبت فيها وسط مئتي ألف شخص تحت طائرات الاحتلال، حظر المسيرات في المدينة.
وأكسبت هذه الأحداث المسيرات زخماً في أنحاء تركيا المختلفة، وعُقدت 150 مسيرة في الأناضول بقيادة النساء التركيات.
جمعيات نسائية لدعم الجنود
قدّمت الجمعيات النسائية، التي تأسست خلال فترة النضال الوطني، المساعدة المادية والمعنوية للجمهور والجنود، ومن أهم تلك المؤسسات: جمعية المعلمات وجمعية نساء الأناضول للدفاع عن الوطن وجمعية الدفاع عن الحقوق وجمعية المرأة المعاصرة بالإضافة إلى تطوعهن في الهلال الأحمر.
وحاكت نساء أُخريات الملابس ونسجنها لتلبية احتياجات الجنود، وأعدت القريبات من منطقة القتال المُؤن لتلبية الاحتياجات الغذائية للمقاتلين على الجبهة، وحملنها أيضاً مع المياه والإمدادات والذخيرة.
ومن الأدوار المهمة الأخرى التي لعبتها النساء في الساحات الخلفية للمعارك، علاج الجنود الجرحى وتقديم الرعاية اللازمة لهم.
نساء على الجبهة
وخلال المسيرة الطويلة لحرب الاستقلال، قاتلتْ المرأة التركية جنباً إلى جنبٍ مع الرجل في الجبهة ضدّ العدو، ووقعتْ في الأسر وتعرضتْ للتعذيب، ربّما منهن أسماء معروفة، وأسماء ستسمعها للمرة الأولى.
خالدة أديب أديوار (1884- 1964)، لا بدّ أن تكون من الأسماء الأولى التي تتبادر إلى الذهن عندما يتعلق الأمر بالنضال الوطني، فبجانب تاريخها الأدبي وتنظيمها للمسيرات الشعبية، قاتلتْ أديوار على الجبهة لفترة طويلة، بادئةً برتبة "أونباشي" (عريف) حتى أصبحت رقيباً أول، كما حصلت على وسام الاستقلال.
وتعدّفاطمة أردان (1888- 1955) إحدى بطلات معركة دوملوبينار، التي تُوّجت بالنصر في 30 أغسطس/آب 1922، ووقعت في أسر العدو حينها، وبعد أن تمكنت من الفِرار، ترقّت إلى رتبة ملازم أول.
وشاركتْ الجندية المولودة بأرضروم وعُرفت بـ"قره فاطمة"، لأول مرة في تنظيمات دفاع صغيرة مع عائلتها في القرية، ثم التحقتْ بالجيش وخدمتْ وطنها لمدة ثلاث سنوات.
وقاتلتْ أيضاً في معركتَي إينونو الأولى (6 يناير/كانون الثاني-11 يناير/كانون الثاني 1921) وإينونو الثانية (23 مارس/آذار-1 أبريل/نيسان 1921) في أفيون قرة حصار وأُصيبت بجروح، ثم ذهبتْ إلى إزميت وبقيتْ هناك حتى حُررت من العدو في 28 يونيو/حزيران من العام نفسه.
تقاعدتْ أردان في نهاية حرب الاستقلال برتبة ملازم أول، وحسبما كُتب عنها، فلم تقبل معاشها التقاعدي، وقالت إنّها لم تقاتل من أجل المال، وتبرعت به للهلال الأحمر، كما حصلت على وسام الاستقلال.
وكانتمنور صايمة، طالبة في مدرسة دار الفنون للإناث قبل حرب الاستقلال، ثم صدر بحقها قرار اعتقال من الاحتلال بعد خطاب ألقته في مسيرة لدعم النضال الوطني بمنطقة "قاضي كوي" في إسطنبول.
ولُقبت بالجندية صايمة، لبراعتِها بشكلٍ خاص في الاستخبارات خلف الجبهة، وبعد انتهاء الحرب عملتْ في تعليم اللغة التركية، وتُوفيت عام 1951.
ومن الأسماء البارزة أيضاً في قصص النضال شريفة باجي، التي تُوفيت في عمر الـ21 وهي تحمل السلاح، ولم تكن قد وصلتْ بعد إلى جبهة القتال، حيث تُوفيت بسبب التجمد من البرد في ديسمبر/كانون الأول 1921، عندما كانت في طريقها لإحضار الذخائر بعربتها التي تجرها الثيران.
وانضمتْجوردسلي مقبولة (1902- 1922) إلى صفوف المقاومة بعد زواجها بعامٍ واحدٍ برفقة زوجها، ثم استشهدت في أثناء اشتباكاتها مع اليونانيين في مدينة أفيون قرة حصار بتاريخ 19 مارس/آذار 1922.
إلى ذلك، انضمتْ أيضاً نزاهت بايسل (1909- 1993) إلى صفوف الحرب بعمر التاسعة، إذ كان والدها حافظ خليل بيك قائد فوج السبعين في حرب الاستقلال، واصطحبها معه إلى الجبهة بعد وفاة والدتها، تميّزتْ في ركوب الخيل واستخدام الأسلحة، وحصلتْ على رتبة "أونباشي" (عريف) في عُمْر الـ12 عاماً، كما مُنحتْ وسام الاستقلال.
وشاركتْ حليمة تشاووش (1898- 1976) في حرب الاستقلال رغم معارضة عائلتها متنكرةً بزي رجل، وحلقت شعرها ولم تخبر أحداً أنّها امرأة، حتى أُطلق عليها "الرقيب حليمة"، وفي يونيو/حزيران 1921 عندما قصف اليونانيون مدينة إينيبولو، أُصيبت حليمة في ساقها ما تسبّب لها بإعاقة دائمة، ومُنحت وسام الاستقلال، ولم تخلع الزي العسكري حتى وفاتها.







