يُغيّر معالم المدينة... كيف يستخدم الاحتلال الإسرائيلي التجريف سلاحاً للسيطرة على القنيطرة السورية؟

يواصل الاحتلال الإسرائيلي منذ أواخر 2024 تجريف مساحات واسعة في القنيطرة السورية، مدمّراً الغابات والمزارع لتحويلها إلى قواعد عسكرية وخطوط دفاعية، ما أدى إلى كوارث بيئية وخسائر فادحة للسكان المحليين.

By آلاء الحجي
الغابات الطبيعية الممتدة على طول خط فضّ الاشتباك من شمال القنيطرة إلى جنوبها أولى المناطق مستهدفة بعمليات التجريف الإسرائيلية

تواصل قوات الاحتلال منذ أواخر عام 2024 تنفيذ عمليات تجريف واسعة النطاق في محافظة القنيطرة السورية، استهدفت مساحات زراعية وحراجًا طبيعية، ما أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من الغطاء النباتي وتحويل مناطق خضراء إلى أراضٍ قاحلة.

ووفق مصادر محلية، تهدف هذه العمليات إلى إقامة قواعد عسكرية وخطوط دفاعية جديدة قرب خط وقف إطلاق النار في الجولان المحتل، في إطار سياسة إسرائيلية مستمرة منذ عقود تهدف إلى تغيير معالم الأرض واستنزاف مواردها الطبيعية بما يخدم التمركز العسكري والهيمنة الأمنية في المنطقة.

أمن إسرائيل ذريعة لمحو الغابات

كانت الغابات الطبيعية الممتدة على طول خط فضّ الاشتباك من شمال القنيطرة إلى جنوبها أولى المناطق المستهدفة بعمليات التجريف، حيث باشرت قوات الاحتلال الإسرائيلية أعمالها في ريف القنيطرة الشمالي، وتحديدًا في قرية جباثا الخشب.

ففي 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، شرعت قوات الاحتلال بتجريف نحو 2000 دونم من الأراضي الزراعية المزروعة بأشجار الكرز والتفاح والزيتون، إضافة إلى الثلث من المحمية الطبيعية التي تبلغ مساحتها نحو 1300 دونم وتضم أشجارًا معمّرة مثل السنديان والزعرور والملول، تمهيدًا لإنشاء قاعدة عسكرية ومنطقة أمنية مغلقة في محيطها.

وفي 10 يونيو/حزيران 2025، استأنفت القوات الإسرائيلية عمليات التجريف بذريعة أن الأشجار تحجب مجال الرؤية أمام القوات المتمركزة غرب القرية، حيث طالت العمليات نحو 50 دونمًا من أشجار الصنوبر المثمر. 

وكانت القوات قد أبلغت الأهالي بنيتها تجريف كامل حرش جباثا الخشب (الشحّار)، لكنها علّقت العمل مؤقتًا بعد تدخل قوات الأمم المتحدة لمراقبة فضّ الاشتباك (UNDOF) التي لم تنجح في إيقاف الجرافات سوى لفترة قصيرة.

ففي 17 أكتوبر/تشرين الأول 2025، عاودت إسرائيل أعمالها وجرفت نحو 150 دونمًا إضافيًا من الأشجار الحراجية داخل المحمية، مع رفع سواتر ترابية ضخمة حول برج الزراعة الذي حُوِّل إلى نقطة عسكرية جديدة، بينما ما تزال عمليات التحصين مستمرة حتى اليوم.

ولم تتوقف التجريفات عند حدود جباثا الخشب، إذ مُحيت غابات كودنة بالكامل عقب احتلال تل الأحمر الغربي في 8 ديسمبر/كانون الأول، وخلال شهر واحد فقط لم يتبقَّ منها أي شجرة، بعدما بررت إسرائيل ذلك بأن الغابة تُعيق الرؤية وتُستخدم للاختباء من قبل “عناصر إرهابية”، وفق ما أبلغت به سكان المنطقة.

طريق سوفا 53 يلتهم الأرض

تستمر القوات الإسرائيلية شقّ ما يُعرف بـ “طريق سوفا 53” في محافظة القنيطرة، الطريق يمتد من غرب قرية عين التينة شمال القنيطرة وصولًا إلى جنوب الجولان المحتل، ويتضمن خندقًا بعمق يقارب 3 أمتار، يبتعد في بعض مقاطعه عن شريط فضّ الاشتباك ليقتطع أجزاء جديدة من الأراضي السورية.

ووفق مصادر محلية، جرفت الآليات الإسرائيلية ما يقارب 6000 دونم من أراضي قريتي الحميدية والحرية في الريف الشمالي لإنشاء هذا الطريق، وهي أراضٍ كانت تضم مساحات واسعة من الأشجار البرية والمراعي الطبيعية.

وامتدت عمليات التجريف لاحقًا إلى الريف الأوسط، لتشمل حراج بئر عجم وبريقة، حيث لم يتبقَّ سوى عدد محدود من الأشجار المتناثرة قرب منازل الأهالي، على مسافة لا تتجاوز 200 متر من آليات الاحتلال.

 كما شملت التجريفات الريف الجنوبي، بدءًا من أطراف قرية كودنة وصولًا إلى قريتي العشة والرفيد، ما أدى إلى تدمير أجزاء إضافية من الغطاء النباتي في المنطقة.

خسائر طالت الشجر والبشر

أسفرت حملات التجريف الإسرائيلية المتواصلة في محافظة القنيطرة عن مشهد بيئي واقتصادي قاتم: غابات بلا أشجار، وتحوّل اللون الأخضر الذي كان يميز المنطقة إلى مساحات ترابية قاحلة، فيما تحوّلت التربة الزراعية إلى سواتر وتحـصينات عسكرية، تاركة السكان أمام واقع قاسٍ فقدوا فيه مصادر رزقهم ومتنفسهم الطبيعي الوحيد.

يقول محمد مريود، أحد وجهاء قرية جباثا الخشب، في حديث لـ TRT عربي:"خسارتنا كبيرة، خسرنا ما يقارب 12 ألف دونم من الأراضي التي كنا نزرعها ونرعى فيها الماشية. كانت جباثا الخشب تضم أكبر ثروة حيوانية في القنيطرة، واليوم لم تعد هناك مساحات كافية للرعي. حتى أغصان الأشجار التي كنا نجمعها بعد التقليم للتدفئة لم تعد موجودة الآن".

أما أحد الرعاة في القرية فيقول لـTRT عربي :"بعت نصف الأغنام والماعز لأؤمّن ما تحتاجه البقية من علف، بعد أن مُنعنا من الوصول إلى أراضينا وجُرفت مساحات واسعة منها".

ويروي محمد بكر، أحد شبّان القرية، لـ TRT عربي كيف غيّر التجريف ملامح حياته: "كان الحراج متنفسنا الوحيد، وخلال سنوات الحرب كان ملجأ لنا حين يشتد القصف. عشنا فيه أجمل ذكرياتنا، واليوم لم يعد متاحًا، نخشى أننا فقدناه إلى الأبد".

وفي بلدة بئر عجم، يسود القلق بين الأهالي من تمدّد عمليات التجريف نحو قلب البلدة. يقول بيبرس، أحد سكانها، لـ TRT عربي: "نصف أرضي ابتلعها الخندق الذي تحفره آليات الاحتلال يوميًا، ومع مرور الأيام تقترب أعمال التجريف والحفريات من منازلنا… لم يعد يفصلنا عنها سوى أقل من 200 متر".

تضييق ممنهج وخلق الفتن

لم يكتفِ  الاحتلال بتجريف الأرض، بل لجأ أيضًا إلى سياسة موازية تهدف إلى تجفيف مصادر رزق السكان وإحداث انقسام اجتماعي بين قرى المنطقة في امتداد لسياسته في بث الفرقة ما بين المكونات السورية.

فقد سمحت القوات الإسرائيلية لعناصر من قرية حضر ذات الغالبية الدرزية بقطع ونقل الأشجار من محمية جباثا الخشب ذات الغالية السنية ، بينما منعت سكان جباثا الخشب أنفسهم من جمع ما تبقّى من أشجارهم المقتلعة، سواء لاستخدامها في التدفئة أو لأي غرض آخر.

ووفق شهادات محلية، أطلقت القوات الإسرائيلية قنابل دخانية واحتجزت جرارات زراعية تابعة للأهالي أثناء محاولتهم جمع الحطب من أراضيهم، في محاولة لردعهم عن الوصول إلى مناطقهم الزراعية. 

وفي حادثة أكثر خطورة، استهدفت القوات الإسرائيلية شابًا بالرصاص مباشرةً أثناء محاولته جمع الحطب، في تأكيد على سياسة التضييق الممنهجة التي تمارسها منذ قرابة عام، والتي تسببت بخسائر اقتصادية وإنسانية واسعة.

وبين جرافاتٍ لا تهدأ وسواترٍ تُبنى بوتيرة متسارعة وخنادق تمتد من شمال القنيطرة إلى جنوبها، تواصل إسرائيل رسم حدود جديدة تخدم واقعها الأمني المفروض بالقوة، محوّلة الغابات إلى أراضٍ قاحلة ومناطق عسكرية مغلقة.

تتراجع المساحات الخضراء يومًا بعد يوم، ويُمحى التاريخ الطبيعي لمحافظةٍ كانت يومًا تنبض بالحياة والرزق، لتتحول إلى مشهدٍ من الخراب البيئي والاجتماعي، حيث تختفي الأشجار ويُهجّر الناس من أرضهم في عملية تجريف مزدوجة تطال الأرض والإنسان معًا.