تابعنا
جرى الحديث كثيراً عن الدور البارز الذي لعبته مؤسسات وجهات بالدولة التركية في مواجهة محاولة الانقلاب والانقلابيين، لكن لا شك أن عاملاً مهماً آخر ساهم بشكل كبير في نجاح المقاومة ضد منظمة كولن الإرهابية، ألا وهو الشعب التركي.

مر نحو أربعة أعوام على محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو/تموز 2016. وخلال هذه الأعوام شهدت تركيا عملية تطهير لمؤسسات عديدة من عناصر منظمة غولن الإرهابية التي انتشرت فيها منذ سبعينيات القرن الماضي، في مقدمتها الجيش والقضاء والشرطة.

أحيل كل من اشترك في محاولة الانقلاب إلى القضاء، كما اتُّخذت خطوات دبلوماسية عديدة لمواجهة أوكار المنظمة الإرهابية وأنشطتها بالخارج، وجرى التشديد على ضرورة عدم اقتصار مواجهة إرهابيي غولن على الداخل التركي وحسب بل في خارجها أيضاً.

جرى الحديث كثيراً عن الدور البارز الذي لعبته مؤسسات وجهات بالدولة التركية في مواجهة محاولة الانقلاب والانقلابيين، لكن لا شك أن عاملاً مهماً آخر ساهم بشكل كبير في نجاح المقاومة ضد منظمة غولن الإرهابية، ألا وهو الشعب التركي.

خروج الشعب ليلة 15 يوليو/تموز 2016 إلى الشوارع وكفاحه ومقاومته المباشرة ضد الانقلابيين لعب دوراً كبيراً في الحيلولة دون سيطرة الانقلابيين على مؤسسات الدولة الحساسة، وسطَّر المواطن التركي ملحمة لا نظير لها بدفاعه عن بلده وحكومته المنتخبة، وشدد على أن الانقلابيين لن ينالوا بأي شكل أو ظرف كان دعم الشعب، ومن ثم امتلاك شرعية مستندة إلى ذلك.

ولإدراك أهمية كفاح المجتمع التركي ضد منظمة غولن الإرهابية، ينبغي تسليط الضوء على ما حدث ليلة 15 يوليو/تموز 2016.

فعقب التأكد من أن عناصر منظمة غولن تنفذ محاولة انقلاب عسكري، خرج الرئيس رجب طيب أردوغان على إحدى الفضائيات، ودعا الشعب للخروج معه لمقاومة الانقلابيين، قائلًا: "أدعو شعبنا للخروج إلى الساحات والمطارات. فلنجتمع معاً في الميادين والمطارات، وليأتِ هؤلاء، هذه الأقلية، بدباباتهم ومدافعهم، وليفعلوا للشعب هناك ما سيفعلون. لم أعترف ولم أقبل بأي قوة فوق قوة الشعب حتى اليوم. وأنا كقائد أعلى سآتي إلى الميدان".

ويظهر في اللقاءات التي أجريت لاحقاً مع المواطنين الذين خرجوا إلى الشوارع تلك الليلة، أن دعوة الرئيس أردوغان وبث خطاب الانقلاب عبر شاشة التلفزيون الحكومي، فضلاً عن الأدعية والابتهالات التي صدحت بها المساجد داعية الشعب لمقاومة الانقلاب، كلها كانت أموراً أثَّرت في معنوياتهم ودفعتهم للخروج.

كافح الشعب في الشوارع والساحات ضد الانقلابيين في ليلة 15 يوليو/تموز 2016، وبدأ الانقلابيون إطلاق الرصاص الحي على المواطنين بعد خسارتهم تفوُّقَهم المعنوي مع خروج الشعب إلى الشوارع. ونتيجة لإطلاق النار استُشهد 251 مواطناً وأصيب 2190 آخرين.

يتضح من ذلك أن المجتمع التركي لعب دوراً كبيراً في إفشال محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز. وقد يساور كثيرين الفضول حول الأسباب التي تقف وراء هذا الدور المهم، في حين اتسمت بالضعف مواقف شعبية تجاه انقلابات حدثت في دول أخرى بالعالم.

وهنا يتوجب الرجوع بالتاريخ إلى الوراء لمعرفة إجابة هذا السؤال، فقد شهدت الجمهورية التركية منذ تأسيسها عدة انقلابات، أولها عام 1960، ثم في عام 1971، وعام 1980. كما شهدت انقلابين ناعمين في عامي 1997 و2007 عبر تدخل الجيش في شؤون الحكومة المدنية وسعيه لتشكيل الحياة السياسية وفق رغبته.

فعلى مدار سنوات طويلة كانت تمارس الحكومات المنتخبة في تركيا الحياة السياسية تحت هيمنة الجيش. ولا شك أن وصاية الجيش على المؤسسات السياسية أضعفت تطور ثقافة الديمقراطية، ومنعت تطوير رد فعل مجتمعي ضد الانقلابات العسكرية.

لذا اتسمت ردود الفعل الشعبية تجاه الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا بالضعف. وحتى لو رغبت بعض فئات المجتمع التركي في مقاومة الانقلابيين فإن افتقارها إلى التنظيم حينها حال دون ذلك.

غير أن صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في 2002، وتركيزه على مواجهة الوصاية العسكرية اعتباراً من 2007، ساهم في تطوير ثقافة الديمقراطية في تركيا. ومع مرور الوقت بدأت تزداد حدة الموقف الشعبي ضد تدخل الجيش في الحياة السياسية.

ومع حلول 2010، ظهرت معالم الضعف على الوصاية العسكرية في تركيا، الأمر الذي ساهم في ظهور ردود فعل شعبية ضد جميع الإجراءات المنافية للحياة الديمقراطية. لذا فمقاومة الشعب محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 كانت نتيجة ضعف الوصاية العسكرية على الحياة السياسية وتطور ثقافة الديمقراطية.

وهنا ينبغي النظر أيضاً إلى النهج الذي يتبناه المجتمع من أجل فهم الوعي المجتمعي في هذه القضية. ففي استطلاع رأي أُجري مباشرة عقب المحاولة الانقلابية، يقول مواطن مقارناً محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 مع الانقلابات السابقة: "وقفنا جميعاً كيد ودولة واحدة ضد محاولة الانقلاب. لم يتوفر هذا الوعي في عام 1980. أحداث 1977 و1978 أنهكت الشعب تلك الفترة. وكانت الفوضى منتشرة في بلدنا. أما اليوم فالوضع مختلف. ويتضح من آراء الشعب المشتركة أن قيادة الرئيس أردوغان إلى جانب وعي المجتمع لعبا دوراً كبيراً في إفشال محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز 2016.

هل تواجه تركيا خطر حدوث محاولة انقلاب في المستقبل؟ إن موقف الشعب واضح وصريح بخصوص هذه المسألة: فعهد الانقلابات في تركيا انتهى مع 15 يوليو/تموز 2016.

وقد لخص هذه الكلمات أحد المواطنين قائلاً: "بعد 15 يوليو/تموز 2016، لا ولن يجرؤ أحد أن ينفذ انقلاباً مجدداً، سيجد كل الانقلابيين شعبنا في وجوههم، ولن يتقاعس أحد عن مقاومتهم، وسيحارب الجميع حتى آخر قطرة دم، 15 يوليو/تموز تاريخ انتهت فيه الانقلابات في تركيا".

لا شك أن تطور ثقافة الديمقراطية وزيادة الوعي المجتمعي ضد الانقلابات أمران مهَّدا الطريق أمام انتهاء عهد الانقلابات في تركيا. وجملة الرئيس أردوغان "انتهى من الآن عهد الانقلابات في تركيا" تلخص الأمر.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن فشل محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 لم يكن فشلاً للانقلاب الأخير وحسب، بل هو حكم بالفشل على كل الانقلابات العسكرية مستقبلاً أيضاً.

فلأول مرة يصدر عن الشعب رد فعل بهذا المستوى ضد محاولة انقلاب، ما ساهم في توضيح موقف المجتمع من الانقلابات في صورة جلية وصريحة لا تقبل التأويل. لذا فما حدث في 15 يوليو/تموز 2016 ليس مجرد انقلاب فاشل نفذته منظمة كولن الإرهابية، بل هو نقطة تحول في تاريخ الديمقراطية في تركيا.

TRT عربي